رامي زهدي يكتب : الاستخبارات الإقتصادية في القارة الإفريقية.. بين الأمن والتنمية.. معادلة صناعة المستقبل

لطالما بدا للعامة أن الاستخبارات حكر على الشؤون الأمنية وحماية الدول من التهديدات , غير أن النظرة الأكثر عمقًا تكشف عن دور خفي وفعّال لمنظومات المعلومات في توجيه مسارات التنمية الاقتصادية، لاسيما في المشاريع الكبرى للبنية التحتية.
وفي عالم اليوم وفي ظروف القارة الإفريقية، تتشابك المصالح، وتتقاطع الرهانات الجيوسياسية مع التنمية المستدامة، فتصبح أنشطة الاستخبارات ركيزة أساسية لاختيار مواقع المشروعات، وإدارة المخاطر، وتهيئة بيئات الاستثمار، وصناعة التفوق الاستراتيجي للدول.
“الاستخبارات… شريك غير مرئي للتنمية”
في أي مشروع ضخم للبنية التحتية، من شبكات الطرق العابرة للقارات إلى الموانئ الذكية والمطارات الجديدة، تتدفق وراء الكواليس منظومات من المعلومات الدقيقة، بيانات عن طبيعة الأرض، تقديرات للمخاطر السياسية والاجتماعية، رصد لميول المجتمعات المحلية، وتقييم لمدى استقرار الحكومات الإقليمية.
هذه المعلومات لا تُجمَع عشوائيًا، بل تنتج عن عمل استخباراتي منظّم يستند إلى تقنيات الاستشعار، ووسائل التحليل السيبراني، وأحيانًا المصادر البشرية الميدانية. والهدف؟ تقليل المخاطر، وزيادة فرص نجاح الاستثمارات العملاقة.
فالمعلومات هي بوصلة توجيه الموارد وتقدير المواقف وإتخاذ القرارت، ولا تنحصر مهمة أجهزة المعلومات في التحذير من التهديدات فقط؛ بل تتعداها إلى رسم خرائط الفرص الاقتصادية.
خاصة في إفريقيا، فقد لعبت المعلومات الاستخباراتية دورًا محوريًا في توجيه الاستثمارات نحو مناطق محددة، أحيانًا رغم الصورة الظاهرية لعدم الاستقرار. كانت المعطيات الخفية كفيلة بكشف فرص واعدة مختبئة خلف ضباب الفوضى الظاهرية، مما مكّن بعض الدول والشركات من تحقيق سبق اقتصادي نوعي.
في وقت قد تكون فيه مشاريع البنية التحتية الكبرى في القارة هي مسارح صراعات غير مرئية، فحين تبني دولة ميناءً جديدًا، أو طريقًا سريعًا، أو سدًا ضخمًا، فإنها لا تقيم فقط مشروعًا اقتصاديًا، بل تخوض صراعًا متعدد الأبعاد، جغرافي، استراتيجي، أمني، اقتصادي.
في هذا السياق، تصبح المعلومات الدقيقة أداة من أدوات السيادة الوطنية، ومعرفة تفاصيل المنافسين، واستكشاف اتجاهات التحالفات الإقليمية، وقياس قدرات الفاعلين المحليين، وكلها عوامل حاسمة قد تقرر مصير المشروع بين النجاح أو الإجهاض.
ومن هنا نفهم لماذا باتت بعض أجهزة الاستخبارات العالمية تُنشئ وحدات خاصة لدراسة الجغرافيا الاقتصادية، ورصد المشاريع التنموية الكبرى، ومتابعة تأثيرها المحتمل على ميزان القوى.
في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا، هناك شواهد واضحة على التداخل بين العمل الاستخباراتي والتنمية الاقتصادية، ففي مبادرة “الحزام والطريق” علي سبيل المثال، اعتمدت بعض الدول على معلومات دقيقة لتحصين مشاريعها ضد المخاطر الجيوسياسية.
في شرق إفريقيا، أدت المعلومات الاستخبارية إلى تغيير مواقع بعض السدود والموانئ لتفادي توترات مستقبلية مع مجتمعات محلية أو قوى إقليمية.
في غرب إفريقيا، أسهمت تقارير استخبارية سرية في توجيه استثمارات في البنية التحتية نحو مناطق كانت تبدو مهملة، لكنها كانت تحمل إمكانات نمو هائلة.. غير أن هذا التقاطع بين الاستخبارات والتنمية ليس خاليًا من الإشكاليات.
ثمة أسئلة جوهرية تُطرح، فإلى أي مدى يجب أن تعتمد الحكومات على المعلومات السرية في قرارات التنمية؟ وما هو الحد الفاصل بين حماية المصلحة الوطنية واحترام الشفافية وحقوق المجتمعات المحلية؟ وكذاك كيف نمنع تحول المعلومات الاقتصادية السرية إلى أداة احتكار أو استغلال؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب بناء أطر قانونية وأخلاقية جديدة لإدارة العلاقة بين المعلومات والتنمية، خاصة في القارة الإفريقية التي ما تزال كثير من مجتمعاتها في مرحلة بناء مؤسساتها الوطنية.في النهاية، ونحو تكامل أذكى بين الأمن والتنمي، وفي عصر لا مكان فيه للصدف، ولا مكان فيه للأخطاء غير المحسوبة، تصبح الاستخبارات والإقتصادية منها تحديداََ ركيزة من ركائز التخطيط التنموي المستقبلي.
من يمتلك المعلومات يمتلك القرار , ومن يوظفها بذكاء، يرسم معالم مستقبله ومستقبل أجياله القادمة.
وهكذا، فإن طريق التنمية في إفريقيا والعالم لا يُرصف بالآلات والجرافات فقط… بل ترصفه أولًا المعلومات، ثم تأتي المعدات لاحقًا.
- رامي زهدي خبير الشؤون الإفريقية السياسية والإقتصادية الإستثمار والتجارة البينية بالقارة.
إقرأ المزيد :
رامي زهدي يكتب : مصر وجيبوتي.. شراكة استراتيجية في قلب القرن الإفريقي