رامي زهدي يكتب: هنا القاهرة… صوت إفريقيا المسموع

هنا القاهرة… صوت إفريقيا المسموع وقلبها النابض وعقلها الراجح، فلم تعد القاهرة مجرد عاصمة لبلد كبير يقع في شمال شرق القارة، بل باتت موقعًا رمزيًا واستراتيجيًا لصوت إفريقيا المتزن، وعقلها الراجح في خضم التحولات، وقلبها النابض بالوعي، والمصالح، والعدالة. إن الزخم الأخير المتصاعد في التحركات المصرية تجاه القارة الإفريقية لم يأتِ صدفة، بل هو تعبير عن وعي استراتيجي عميق، وإدراك مركب لعلاقة المصير المشترك بين أمن مصر القومي ومستقبل القارة.
“مطار القاهرة…و زيارات افريقية لا تهدأ… ذهاباََ وإياباََ”
مطار القاهرة الدولي تحوّل إلى محطة رئيسية للحراك الرئاسي الإفريقي. رئيس يغادر والآخر يصل. مشهد يكرر نفسه منذ أعوام، لكنه ازداد كثافةً ودلالةً في السنتين الأخيرتين. هذا وحده يعكس أن الزعامة ليست ضجيجًا إعلاميًا، بل ثقة تُقاس بالمواعيد واللقاءات والنتائج.
في عام 2024، سجلت القاهرة أكثر من 27 زيارة رئاسية إفريقية، ما بين قمم ثنائية ومشاركات في مؤتمرات اقتصادية وتنموية.، بينما وقبل انتصاف العام 2025 مؤشرات الأرقام الإحصائية في طريقها لتخطي كل ماسبق من أرقام سواء عددياََ او ضمنياََ من حيث الآثر والتأثير.
وليس ذلك فحسب، إنما أيضا جرى توقيع أكثر من 40 اتفاقية تعاون ومذكرة تفاهم في مجالات تشمل الأمن الغذائي، الطاقة، البنية التحتية، التعليم، التكنولوجيا، والصحة العامة.
“الأمن القومي لا يُحفظ من الحدود فقط… بل من العمق الإفريقي”
في الاستراتيجية المصرية الحديثة، لم تعد الحدود الجغرافية كافية لحماية الأمن القومي. فالمياه، واللاجئون، والتجارة، ومكافحة الإرهاب، وسلاسل الإمداد، كلها تتطلب امتدادًا طبيعيًا داخل العمق الإفريقي.
من مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط، الذي يعكس فهمًا تكامليًا للبنية المائية، وطريق القاهرة كيب تاون، والطرق الدولية العرضية الطويلة عابرة الحدود والصحاري إلى مشروعات تحلية المياه والطاقة الشمسية في الساحل الإفريقي، إلى المناورات العسكرية المشتركة مع دول حوض النيل والقرن الإفريقي، والتي وصلت إلى 14 مناورة في عامين فقط، بالإضافة تعاون عسكري وثيق، وكذلك أمني ومعلوماتي واستخباراتي في وقت تظهر فيه ملامح مدرسة مصرية جديدة في التفكير الأمني، توازن بين الصلابة والمرونة، وبين القوة والشرعية.
“مصر الشريفة… حين تتعامل الندية مع الشراكة العادلة”
أحد أبرز عوامل الثقة الإفريقية المتزايدة في القاهرة هو ما يمكن تسميته بـ”النموذج المصري الأخلاقي” في التعاون، حيث لا استغلال ولا شروط مجحفة، بل شراكة قائمة على الندية، التكافؤ، واحترام السيادة، كل هذا يجعل مصر مقبولة سياسيًا، ومطلوبة اقتصاديًا، ومرغوبة شعبيًا، ففي مدغشقر علي سبيل المثال، طلبت الحكومة الاستعانة بالخبرة المصرية في بناء العاصمة الجديدة، مستلهمة تجربة العاصمة الإدارية، وفي جنوب السودان، تشرف القاهرة على تطوير مشروعات زراعية وصحية وتعليمية حيوية، بينما في الكونغو الديمقراطية، تتعاون مصر في مجال الطاقة المتجددة والمياه، وتستضيف طلابها وأطبائها وأئمتها في برامج تدريبية طويلة الأمد، وهكذا الحال مع معظم ان لم يكن كل الدول الإفريقية.
“الاقتصاد مفتاح التمدد الناعم”
المصالح الاقتصادية ليست بوابة للاستثمار فقط، بل نافذة للتأثير الحضاري والثقافي. ومصر تدرك تمامًا أن إفريقيا، التي يُتوقع أن تشهد أعلى معدلات النمو السكاني والاستهلاك حتى 2050، يجب أن تكون شريكًا في البناء، لا مجرد مستهلك أو مستقبل للسلع.
خلال 2024، قدمت مبادرة دعم الصادرات المصرية لإفريقيا تمويلات بقيمة 2.2 مليار دولار، كما نُفذت 12 مشاركة رسمية لمصر في معارض ومنتديات اقتصادية إفريقية، شملت نيروبي، أكرا، أبوجا، ودار السلا، وفي المقابل، استضافت القاهرة أكثر من 1000 رجل أعمال إفريقي ضمن منتديات الاستثمار في إفريقيا والاتحاد الإفريقي، مما يجعل مصر منصة التلاقي الاقتصادية للقارة.
“البعد الثقافي والتعليمي… حيث تتكون الهوية المشتركة”
منح آلاف المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، وتقديم برامج تدريبية للأئمة والدعاة والقضاة، واحتضان الفنانين والمفكرين الأفارقة في منتديات القاهرة، لم يكن عملاً تقليديًا، بل هو بناءٌ طويل المدى لعقل إفريقي يتشارك مع مصر في المفاهيم، والرموز، واللغة، والإدراك.
أخيراََ، ما بين السياسة والاقتصاد، وما بين الوعي بالمصير المشترك واحترام سيادة الشعوب، وبين تحركات مدروسة لا تفتقر إلى الجرأة، تتقدم مصر نحو إفريقيا بخطى ثابتة، لا تعكس فقط مصالحها، بل تُعبّر أيضًا عن إحساسها بالمسؤولية التاريخية.
إن القاهرة لا تعود إلى إفريقيا، لأنها لم تغادرها أبدًا. لكنها تعود اليوم بوجه جديد:
وجه الدولة التي تقود دون أن تهيمن، وتشارك دون أن تستأثر، وتُنقذ دون أن تُدين.
هنا القاهرة، قلب إفريقيا النابض، وصوتها المسموع، وعقلها الراشد في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات وتقل فيه البوصلات.
* رامي زهدي خبير الشؤون الإفريقية، مساعد رئيس حزب الوعي للشؤون الإفريقية .
اقرأ المزيد