الكاتبة التونسية حبيبة الماجري تكتب : تونس الديمقراطية.. متى وكيف ؟

تونس الديمقراطية ستولد عندما يفهم الجميع أن التغيير الحقيقي والفاعل لا تجلبه الحناجر الصادحة بأحلى الشعارات في شوارع العاصمة ولا بيانات الخارجيات الواضحة منها والمبطنة ولا تغطيات الفرق الصحفية المرابطة في المكان تتحين الخبر .. ستولد عندما يتناسب الوزن السياسي للمعارضة بكل اطيافها مع وزنها الحقيقي على أرض الواقع.
الديمقراطية ليست وصفة تطبخ على موائد الأغنياء ولا شعارات يرددها الاغبياء.. أنها وعي وعمل صادق لا يحتمل الخزعبلات وإضاعة الوقت في المؤامرات والتحشيد وتشتيت الجهود.
تمر البلاد بعد مرور عشرية ونصف من انتفاضة “الخبز والحرية والكرامة الوطنية”، بأزمة معقدة تتمثل في “أن القديم يموت والجديد متعسر الولادة؛ فتظهر في هذا الفراغ مجموعة متنوعة من الأعراض المرضية”، كما أكده أنطونيو غرامشي، من زنزانته كسجين سياسي في إيطاليا الفاشية، بعد الحرب العالمية الأولى.
لقد انتهى، منذ 25 جويلية 2021، النظام الذي قادته حركة النهضة، سرا وعلانية، بمباركة أصحاب المنفعة، لكن تونس الجديدة لم تولد بعده.. فالبلاد التي لم تتعاف من مخلفات الزمن البائد، تعكرت كل أحوالها جراء ما الحقه بها مسؤولو الحركة ومريدوها من عبث متعمد أو عن جهل فاضح بإدارة شؤون الدولة. استساغوا حلاوة السلطة فأطنبوا وجهلوا دواليب الحكم فاخطوا.
اليوم، وبعد أن طردها الشعب من علياء الحكم، تلوح في الأفق أشياء منذرة بالسوء.. جديدة، قديمة لم تبدا يوم 25 جويلية.. نحن في نهاية موجة طويلة من تاريخ البلاد، بدأت منذ 69 عاما، مع حكم الرئيس بورقيبة ورفضه فتح الآفاق أمام الديمقراطية، قناعة منه أن معركة القضاء على الجهل المستشري آن ذاك لا تحتمل الرفاه الديمقراطي، وتوالت المعضلة مع بن علي الذي فضّل، عن خوف، لعبة التمويه والاختباء وراء ديمقراطية الزيف فأخذته في أمواجها، التي لم يقرا لها حساب.
ثم وبعد أن “أقبل البدر علينا”، تعمقت الأزمة وحصل ما لم تعرفه البلاد، رغم سوء الحكم وظلم الحاكم الذي عايشته قبل أن تتسلم حركة النهضة صولجان الحكم وتتربع على عرش البلاد، عشر سنوات سوداء كانت كفيلة بتدمير القليل المنجز وتخريب العقول التي دفعت الدولة الغالي والنفيس لتنويرها .
فنشأ في تونس، العليلة أساسا، نوع من الأمراض الخبيثة غير المعهود.. لم يعد الانتماء للوطن ذو قيمة تذكر عند الكثير، وأصبحت البلاد تدفع “الديّة” لأهل من اختار النضال من أجل فكرته، وعظم شان الشماتة وأصبح “موتوا بغيضكم”، و”نصب المشانق” عنوان المرحلةـ وأصبح الركض للولاء المجزي، من حلاله وحرامه، فضيلة، وتفككت الأحزاب وتضخّم المجتمع المدني وفقد كل عناوينه، فغدى، ما عدى جزء ضئيل منه، عصا غليظة بيد المعارضة السياسية اليائسة، حينا، او خادما لمصالح لا تنفع المجتمع، أحيان اخرى .
إن غضبٌ الشعب التونسي وخاصة الشباب منه، الذي نراه في الشوارع وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، مشروع ومطلوب، وهو عنوان حياة وامل.. ولكن أعراض المرض الجليّة في هبّته الصادقة يفسدها دخول الفاشلين من ممتهني السياسة مجاله، وقبوله غير المفهوم أن يكون حطب وقود لقوى داخلية وخارجية، تستغل أحلامه بالحرية والعدالة والديمقراطية، لتحقيق مآرب لا تمت لأهدافه بصلة، بما يدعو للتحليل العلمي الاجتماعي وحتى السيكولوجي .
كلّ عاقل يعلم علم اليقين أن البلاد لن تتعافى بدون نظام ديمقراطي يحترم الحقوق والحريات للجميع، الضعيف قبل القوي والفقير قبل الغني.. ولكنه يؤمن كذلك أن البلاد لا ولن تتعافى ما لم تستند على مؤسسات فاعلة تدير شؤونها.. وأنها لا ولن تتعافى، خاصة وحصرا، ما دام الفساد، صغيره وكبيره، يقود الاقتصاد ويشرب دم الكادحين ويمطر على الغافلين سموم المخدرات، وما دام التعليم لا ينير الطريق والقضاء لا يخاف في الحق لومة لائم، وما دمنا لا نخلق الثورة، والقائمة تطول والأولويات تتزاحم والوقت قاتل يدعو إلى وضع خارطة طريق تنبت الأمل وتقطع العشب تحت أقدام من يضع مصالحة الشخصية او الحزبية أمام مصلحة المجموعة ويستغل كل كبيرة وصغيرة لإضرام نار الفوضى والتباغض.
الأولوية العاجلة الآن وليس غدا، لسلامة الوطن، هي أن يعمل الجميع، كل من موقعه، على بناء أسس نظام ديمقراطي وطني ينتهي بتغيير الحكام إن جاروا ولا يبدأ به. ولنا في البلاد من التجارب ما يكفي لفهم هاته المعادلة الهامة على بساطتها.. فقد سقط بورقيبة وسقط بن علي فماذا كانت النتيجة ولفائدة من ؟
* حبيبة الماجري .. كاتبة صحفية تونسية.
اقرأ المزيد
رامي زهدي يكتب: هنا القاهرة… صوت إفريقيا المسموع