رامي زهدي يكتب : «من الكاكاو إلى الشكولاتة».. كيف تنتقل إفريقيا من تصدير المواد الخام إلى تصنيع المنتجات النهائية؟
"دراسة حالة: ساحل العاج وغانا في قطاع الكاكاو"

حين ننظر إلى القارة الإفريقية، نراها كما وصفها التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة؛ قارة غنية فقيرة، ممتلئة بالخيرات، منهكة في إدارتها.. وفي القلب من هذا التناقض يقف قطاع الكاكاو، وتحديدًا في ساحل العاج وغانا، نموذجًا ساطعًا للتحديات والفرص.
الكاكاو تحديدا يسمي الذهب البني في القارة الإفريقية، فساحل العاج وغانا فقط تنتجان معًا أكثر من 60% من الكاكاو العالمي، لكنهما لا تحصلان إلا على أقل من 10% من القيمة المضافة النهائية.. فبينما تزرع حبوب الكاكاو على أراضي الفلاحين الأفارقة، تصنع الشوكولاتة في مصانع أوروبا والولايات المتحدة، وتُباع بأسعار تفوق عشرات المرات سعر المادة الخام.
لأن هناك دائما معضلة التبعية الاقتصادية، فإعتماد هذه الدول على تصدير المواد الخام يُعيد إنتاج نمط استعماري قديم في شكل جديد؛ تصدير المادة الخام واستيراد المنتج النهائي. إنها حلقة مفرغة تُفقر الفلاح وتُغني الشركات متعددة الجنسيات.
وهذا النمط ليس قاصرًا على الكاكاو، بل يشمل القطن والنحاس والكوبالت والقهوة وغيرها.. إننا أمام معضلة هيكلية تتطلب تحولًا إستراتيجيًا في البنية الاقتصادية الإفريقية ! .
ولاشئ يخرجنا من هذه الدائرة إلا إعتماد التصنيع كحل إستراتيجي، لكن السؤال الجوهري هنا: كيف ننتقل من الكاكاو إلى الشكولاتة؟.. أي كيف نتحول من كوننا مصدرين للمادة الخام، إلى منتجين للمنتجات النهائية؟
التحول يقتضي إرادة سياسية، واستثمار في البنية التحتية، وتوطين التكنولوجيا، وبناء شراكات ذكية تضمن للمنتج الإفريقي مكانًا على أرفف المتاجر العالمية.
غانا وساحل العاج تحديدا نموذجان لمحاولات الصعود والتخلص من التبعية، فقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات مثيرة.. فقد أطلقت غانا وساحل العاج مبادرة لتوحيد أسعار الكاكاو عالميًا وفرض رسوم “دعم الدخل المعيشي”، وبدأت كلا الدولتين في استثمارات ضخمة لتطوير مصانع محلية لتحويل الكاكاو إلى شوكولاتة.
في غانا، تم إنشاء مناطق اقتصادية خاصة لتصنيع الكاكاو، وأطلقت علامات تجارية محلية تنافس الشوكولاتة الأوروبية.. أما ساحل العاج، فقد بدأت بتصدير مسحوق الكاكاو والزبدة، ووضعت خطة لزيادة نسبة التصنيع المحلي إلى 50% من الإنتاج بحلول 2025.
لكن هناك عوائق في هذه الطريق وهو ليس مفروشًا بالورود.. حيث تواجه الدولتان ضغوطًا دولية من شركات كبرى تعارض أي تغيير في قواعد اللعبة.. كما أن البنية التحتية اللوجستية، والقدرات التكنولوجية المحدودة، وضعف التمويل المحلي، كلها عوامل تُبطئ الخطى نحو التصنيع.
لتظل أفريقيا وحتي الأن في مواجهة مستمرة مع العولمة الظالمة، فالعالم لا يرحب بدول جنوب تسعى للتصنيع.. من اتفاقيات التجارة إلى قواعد الملكية الفكرية، تُدار العولمة بمنطق يخدم الكبار ويقيد الصغار.
لذا فإن معركة إفريقيا من أجل التصنيع ليست اقتصادية فقط، بل سياسية، سيادية، وجودية.. إنها معركة من أجل تقرير المصير الاقتصادي، حتي نصل يوماََ ما الي نموذج تنموي إفريقي خالص.
وأمام هذه التحديات، لا بد من التفكير في نموذج تنموي جديد، ينطلق من الواقع الإفريقي ويعتمد على تكامل سلاسل القيمة محليًا وقاريًا، وكذلك تحفيز رأس المال المحلي والإقليمي على الاستثمار في التصنيع، وبناء تحالفات بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، والعمل علي نقل وتوطين التكنولوجيا من خلال شراكات عادلة.
ما نحتاجه حقيقيةََ هو وقفة جادة حقيقية معرفية واقتصادية ضد ماضي التبعية، وخريطة طريق لبناء إفريقيا المنتجة، لا إفريقيا المصدرِة فقط.
إن تحول إفريقيا من مُصدر للكاكاو إلى منتج للشكولاتة ومصدر لها هو نموذج فقط وعنوان لمعركة النهضة.، وغير معني تحديدا بالشكولاتة وماهي الا مثال بسيط لأمور ومنتجات لا حصر لها وأكثر تعقيدا، هي معركة لا تُقاس فقط بحجم المصانع أو الصادرات، بل بكرامة الإنسان الإفريقي، وبحقه في أن يرى ثمرة يده تُصنع أمامه، لا أن تُحمل بعيدًا.
* رامي زهدي .. خبير الشؤون الإفريقية السياسية والإقتصادية .
اقرأ المزيد