أخبار عاجلةالرأي

الكاتب النيجيري عمر مختار الأنصاري يكتب : أمي .. سيدة الإيثار ومنارة الصبر

في زمنٍ تهافتت فيه القيم النبيلة، وغرقت النفوس في لجة الفقدان والأسى، كانت أمي، مريم عبدالله، كوكبًا دريًا يزهو في سماء الوجدان، ومنارةً شامخةً تتحدى عواصف الدهر بنورها الوضيء.
لم تكن أمي مجرد أمٍ لأبنائها، بل كانت أمًا لكل من لاقاها، ملاذًا آمنًا لكل روحٍ أثقلتها أعباء الحياة، ونبعًا فياضًا من الحب والسخاء، يروي القلوب الظمأى بفيض عطائها.

كيف أرثيكِ، يا أمي، وأنتِ الروح التي أنعشت فينا الكرامة، والنور الذي أضاء سبلنا في ظلمات الحياة؟ كيف أوفيكِ حقكِ، وأنا أغرق في بحر الحزن، عاجزًا عن استيعاب وطأة فراقكِ؟ أنتِ التي علَّمتِ الدنيا دروسًا في الإيثار والصبر، دون أن تملكي يومًا حرفًا من القراءة أو الكتابة.
حكمتكِ، يا أمي، ومنهجكِ التربوي السامي، كانا جديرين بأن يُخلَّدا في سجلات الأخلاق، فهما جوهر الإنسانية في أسمى تجلياتها.

أمي، مريم، ابنة البادية الطاهرة، كانت رمزًا للجود والكرم، ونجمةً ساطعةً في سماء الإحسان.
لم تعرف يومًا أحرف الكتابة، ولم تطَّلع على سطرٍ من كتاب، لكنها أتقنت لغة القلوب، وحفظت بالفطرة ما عجزت الكتب عن احتوائه. كانت أمي مدرسةً حيةً، تُعلِّم بأفعالها قبل أقوالها، تزرع في النفوس قيمًا راسخةً لا تذبل، وتُحيي في القلوب أملًا لا يخبو. كان بيتها ملاذًا للغرباء قبل الأقربين، وكانت يدها ممدودةً بالخير لكل من طرق بابها، حتى لو لم تملك سوى ما تجود به نفسها الكريمة.
كانت مستشارةً حكيمةً لمن استنصحها، وطبيبةً رحيمةً لمن ألمَّ به السقم، تداوي الرجال والنساء بمعرفتها التقليدية التي ورثتها عن الأسلاف، وترحِّب بالجميع بقلبٍ يعجز اللسان عن وصفه.
صبرت أمي على تربيتنا، تحملت مشقة الأيام وثقل الأعباء، وصبرت على فقدان إخوتي، من الرضيع الذي غادر الحياة قبل أن يعانقها، إلى الكبيرة التي خطفها الموت قبل رحيلها بعام.
صبرت على أذى الناس من كل صوبٍ وحدب، من القريب الذي خذل، والغريب الذي جرح. ومع ذلك، لم ينقطع نبع عطائها، ولم يجف معين حنانها.
كانت في عقدها السابع تخجل كعذراء في خدرها، فتُخفض عينيها حياءً، وكانت كل واحدة من صديقاتها تظن أنها الأقرب إلى قلبها، من شدة عطفها وسخائها العاطفي.
لم تميّز أمي بين غريبٍ وقريب، ولم تمنع خيرها عن أحد، حتى وإن جرحوها. كانت تقول بلسان حالها: “إن كنتَ عقربًا يلسع، فأنا بلسمٌ يشفي، فلكلٍّ طباعه وقدره”.

توفي والدي رحمه الله عام 1413هـ، وكانت أمي في ريعان شبابها. تحملت عبء الأمومة والأبوة معًا، فلم نشعر بألم اليُتم إلا بعد رحيلها ونحن في كبرنا.. كما قال الحكماء: “يظل الرجل طفلًا حتى تفارقه أمه، فيشيخ فجأة” , وها أنا أشيخ بعدكِ، يا أمي، قلبي مثقل بالحزن، وعيناي غارقتان بالدمع. كنتِ الحضن الذي يحتوي، والقلب الذي يعطي، والروح التي تضيء دروبنا في ظلمات الحياة.
كنتِ الملجأ الذي ألوذ إليه بعد كل عثرة، والنور الذي يهديني بعد كل ضلال. كيف أمضي في الحياة، وأنتِ لم تعودي إلى جانبي؟
كم ندمتُ على جهلي، يا أمي! عام 1425هـ، ظننتُ أني كبرتُ، فابتعدتُ عنكِ، وحرمتُ نفسي من عطف حنانكِ، وحرمتكِ من قربي؛ لا يزال صوتكِ يرنّ في أذني، يمزق قلبي بألم الذكرى، وأنتِ تنادين في صالة المغادرة: “عمر، انتبه لنفسك، أوصيك بنفسك خيرًا!” كنتِ ترينني رضيعكِ الذي رضع منكِ اللبن، وكنتِ تحاولين أن ترضعيني سجاياكِ النبيلة، وإن عسر هضمها على أهل هذا الزمان.
كم تمنيتُ أن أعود إلى تلك اللحظة، لأقبّل يديكِ، وأعتذر عن تهوري، وأبقى تحت ظلال رحمتكِ. كم تمنيتُ أن أقدم نفسي وأبنائي قربانًا لبقائكِ ولو لحظةً واحدة، فكيف أعيش والحياة بلا نوركِ أصبحت ظلامًا دامسًا؟
يا أمي، أنتِ جزءٌ من روحي، منذ أن اختاركِ الله مكانًا لنفخ روحي فيه. من تلك اللحظة المقدسة، وأنا ممتنٌ لروحكِ الطاهرة التي احتضنتني، وحملتني، وأنعشت فيني الحياة. لا تزال نسمةٌ من روحكِ الزكية تسري في أنفاسي، تذكِّرني بكِ في كل لحظة، وتؤلمني لأني لم أعد أراكِ. كيف أحيا وجزءٌ من روحي قد رحل معكِ؟ كيف أواصل الطريق، ونسمة حياتي التي كنتِ أنتِ مصدرها قد غابت؟
كانت حياتكِ، يا أمي، ميثاقًا مع الإيثار. لم تكن حاجاتكِ يومًا لذاتكِ، بل كانت دومًا للآخرين. كم أخجلني جهلي حين سألتكِ: “لماذا تحتاجين هذا؟”، وكيف غاب عني أنكِ لا تريدين شيئًا لنفسكِ البتة.
كنتِ تؤثرين الجميع على ذاتكِ، تُسعدين الآخرين قبل نفسكِ، حتى صرتِ رمزًا للإيثار الذي لا يُضاهى. كنتِ تعطين بلا مقابل، وتحبين بلا حدود، وتسامحين بلا قيود. كنتِ النبع الذي لا ينضب، والقلب الذي يحتوي الجميع، حتى أولئك الذي لم يستحقوا عطاءكِ.

قبل رحيلكِ بثلاثة أيام، اجتاحني حزنٌ عميقٌ دون تفسير، كأن قلبي استشعر المصيبة قبل وقوعها. تخيلتُ كل بلاء، لكن قلبي رفض تصوُّر فقدانكِ، لشدة تعلُّقي ببقائكِ.
ثم جاءني الخبر الذي تمنيتُ ألا يصلني أبدًا، عند شروق الشمس في صبيحة الأربعاء، والسماء تمطر؛ قفزتُ لا إراديًا إلى النافذة، فكدتُ ألفظ هجرًا، لولا أن تداركني الرحمن بلطفه، فأجرى على لساني: “اللهم يا منزل الغيث، انزل شآبيب رحمتك على روحها الطاهرة.” كأن الدنيا انهارت فوق رأسي. كرهتُ التعازي والمعزين، ليس لذواتهم، بل لأنهم يطلبون مني المستحيل: أن أتسلى عنكِ بكلمات. كيف أتسلى، وأنتِ الكنز الإنساني الذي لا يُعوَّض؟
بل كرهتُ أبنائي وكل من كان له مكانة في قلبي سابقًا؛ كيف أسمح لأحدٍ أن يزاحم مكانتكِ في قلبي؟
لم يبقَ في قلبي مكانٌ إلا لأبناء أمي، وفاءً لكِ وعهدًا على حبكِ الخالد، الذي يمزقني كلما تذكرتُ أني لن أراكِ في الدنيا بعد اليوم.

تقرر الصلاة عليها بعد صلاة فريضة العشاء في المسجد الحرام، وقرأ الإمام سورة البروج مقسمةً على الركعتين. كأنني أسمعها لأول مرة، فأسقطتُ معانيها على واقعنا أنا وإخوتي ونحن نستمع إليها؛ كأن الإمام يرسل إلينا رسائل مفادها: كما أن للخلائق يومًا موعودًا للبعث من قبورهم، فكذلك لكل واحدٍ منهم يومٌ موعودٌ لدخوله القبر. وأما الأخاديد، فلم أتصورها إلا في خدودنا من كثرة انهمار دموع الحزن الساخنة، التي تنبعث من صدورٍ تتفطر من بركان الصدمة المحرقة.
إنها لفتنةٌ تحصد أرواحنا في كل ثانية، ثم نتنفس الصعداء لأن يومنا الموعود لم يحن بعد. أسأل الله أن يجعلنا ممن كُتب لهم الأجر في هذه المصيبة، ولم يُفتنوا بها ولا بعدها.
وأما خاتمة السورة بتمجيد القرآن وحفظه، ففهمتُ منها أن لا وفاءً للأموات يضاهي ترتيل القرآن الكريم بخشوعٍ وتدبر، وإهداء ثوابه إلى أرواحهم الطاهرة في دار الخلود، لتزداد نقاءً ورفعةً.

*ومن صدف هذا الفراق* أن والدي توفي يوم الثلاثاء 25/12/1413هـ، ووالدتي توفيت يوم الأربعاء 14/01/1447هـ، في نفس المستشفى، ودُفنا في نفس المقبرة بعد ثلاث وثلاثين سنة، تخللتها عودة الوالدة إلى النيجر.
جاء الثلاثاء ثم الأربعاء، لندرك أن تلك العقود لم تكن إلا فاصلًا بين يومين متتاليين.
“إنا لله وإنا إليه راجعون.
” يا مريم، يا سمية سيدة العالمين، دُفنتِ في الحجون بجوار أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فكأن اسمكِ ومكان دفنكِ يبشِّران بمكانتكِ عند الله. كنتِ سيدة القلوب، ومثالًا للأمومة التي لا تُضاهى. كنتِ الأم والأب معًا، نشأتُ عزيزًا في حجركِ، حتى تفرقتُ عنكِ بمحض إرادتي، متهورًا كأي مراهق. وها أنا أعيش ندمًا لا ينتهي، أتوق إلى لحظةٍ أقبّل فيها يديكِ، وأطلب منكِ السماح على كل تقصير.
كنتِ الروح التي تحييني، والقلب الذي يحملني، والدعاء الذي أحتمي به، والآن أعيش في ظلمة فراقكِ، أتخبط في ألمٍ لا ينتهي.
يا أمي، لا عزاء لي في فقدانكِ إلا إيماني بلقاء الآخرة، حيث أرجو أن ألقاكِ على حوض نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. لقد علَّمني فقد حبيبنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الخلد مستحيل في حق أحد، حتى الأنبياء الأطهار، وأن الصبر هو السبيل الوحيد لتحمل ألم الفراق.
فكما صبرت الأمة على فقد النبي الأعظم، أحاول أن أصبر على فقدانكِ، يا أمي، متسلحًا بذكراكِ العطرة التي تمزق قلبي، ودعائي لكِ في كل سجدة.
أقرأ القرآن الكريم وأهدي ثوابه إلى روحكِ الطاهرة، عسى أن يكون شفيعًا لكِ عند رب العالمين.
ستبقين، يا أمي، النور الذي يهدي دربي، والقلب الذي يحملني، والذكرى التي أعيش بها ألمًا وحنينًا، حتى ألقاكِ في دار الخلود، حيث لا فراق ولا أسى.
“إنا لله وإنا إليه راجعون.”

*وصلاة الله وسلامُه على سيدنا محمد، النبي الهادي الأمين، الذي أضاء الكون بنوره البهي، وهدى الأمة بسراجه الوقّاد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأخيار الأبرار، صلاةً تتجدد مع كل نفحة ريح، وتتألق مع كل ذكر وتسبيح، وتدوم مع دوام السموات والأرض، إلى يوم يبعثون.

إقرأ المزيد :

يبلغ من العمر 91 عاما .. الرئيس الكاميروني يعلن ترشحه لولاية رئاسية جديدة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »