الدروز: طائفة باطنية غامضة بين الفلسفة والدين… من هم وأين يتواجدون؟

في عمق التاريخ الإسلامي، وفي ظل الخلافة الفاطمية، ولدت طائفة دينية مثيرة للجدل تُعرف اليوم باسم “الدروز” أو “الموحدون الدروز” , تجمع هذه الطائفة بين الفكر الباطني والعقيدة التوحيدية، وتتميز بانغلاقها العقائدي وخصوصيتها الاجتماعية والثقافية. ورغم قلة عددهم نسبيًا، فإن للدروز حضورًا لافتًا في الحياة السياسية والاجتماعية لعدد من بلدان الشرق الأوسط، ويشكّلون نموذجًا فريدًا للجماعات الدينية المغلقة التي احتفظت بهويتها لأكثر من ألف عام.
ومع تصاعد الأحداث في مدينة السويداء السورية ودخول إسرائيل علي الخط , يستعرض ” أفرو نيوز 24 ” في التقرير التالي من هي طائفة الدروز وأين ينتشرون ؟ .
النشأة والتأسيس: جذور إسماعيلية وروح فلسفية
ظهرت الطائفة الدرزية في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وتحديدًا في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996–1021م) في مصر، وهي الفترة التي اتسمت بتقلّبات سياسية ودينية كبيرة داخل الدولة الفاطمية. وقد تفرعت هذه العقيدة من المذهب الإسماعيلي الشيعي، لكنها سرعان ما اتخذت طريقًا فكريًا وروحيًا مستقلًا، مبتعدة عن العقيدة الإسماعيلية التقليدية، لتؤسس نظامًا دينيًا خاصًا.
المؤسس الفعلي للعقيدة الدرزية هو حمزة بن علي بن أحمد، الذي يُعتبر أول الدعاة وأبرز المنظرين للعقيدة. وقد قدّم ما يُعرف بـ”رسائل الحكمة”، وهي مجموعة من النصوص الفلسفية والدينية التي تُعد المرجع العقائدي الأول للطائفة. شاركه في الدعوة كل من إسماعيل التميمي وبهاء الدين أبو الحسن الزوزني، الذين ساهموا في صياغة المفاهيم العقائدية الجديدة للطائفة.
وقد تم الإعلان عن “دعوة التوحيد” عام 1017م في القاهرة، إلا أن الدعوة لم تستمر طويلًا، وأُغلقت أبوابها رسميًا أمام الوافدين الجدد عام 1043م، لتصبح الطائفة حصرية بمن وُلدوا داخلها، دون إمكانية التحوّل إليها من خارجها، وهو ما لا يزال قائمًا حتى اليوم.
العقيدة والمعتقدات: توحيد، تقمّص، وسرية
الدرزية ديانة توحيدية تؤمن بوحدانية الله المطلقة، وتنظر إليه نظرة فلسفية روحانية بعيدة عن التشبيه والتجسيم. وعلى عكس المذاهب الإسلامية التقليدية، لا يُظهر الدروز شعائر خارجية كالصلاة والصوم والحجّ بالشكل المتعارف عليه، بل يركّزون على الجانب الباطني والتأملي للعلاقة مع الله.
من أبرز معتقداتهم:
-
التقمّص: أي انتقال الروح من جسد إلى آخر بعد الموت، وهو مبدأ جوهري في العقيدة الدرزية.
-
السرّية العقائدية: حيث لا يُكشف مضمون العقيدة إلا لفئة معينة تُعرف بـ”العُقّال”، بينما يُبقي “الجهّال” (عامة الناس) على التزام أخلاقي دون معرفة تفاصيل العقيدة.
-
التوحيد الخالص: وهو المفهوم الذي يرى أن الله لا يُدرَك بالحواس، ولا يُشبَّه بشيء، ويعلو على كل وصف.
-
الصدق، حفظ الإخوان، الولاء، الشرف، الدفاع عن النفس، ومكارم الأخلاق: وهي المبادئ الستة الأساسية التي تشكل أخلاقيات الطائفة.
كما تحتل شخصية الحاكم بأمر الله مكانة روحية مهمة في العقيدة، حيث يُنظر إليه كـ”تجلي للحق الإلهي”، وإن كان ذلك لا يُترجم إلى عبادة شخصية له.
التوزيع الجغرافي: حضور نوعي رغم العدد المحدود
يبلغ عدد الدروز عالميًا نحو 1.5 مليون نسمة تقريبًا، موزعين على عدة بلدان في الشرق الأوسط، مع وجود جاليات نشطة في المغترب.
1. سوريا: المعقل الأكبر
تضم سوريا أكبر عدد من أبناء الطائفة، حيث يُقدَّر عددهم بما بين 700 إلى 800 ألف شخص. ويتمركزون أساسًا في:
-
محافظة السويداء (جبل العرب): وتعد الموطن الرئيسي لهم في سوريا.
-
جبل الشيخ ومحيط دمشق: مثل قرى عرنة وقطنا وصحنايا.
-
بعض القرى في القنيطرة.
ويُعد الدروز في سوريا من أكثر الطوائف ارتباطًا بالأرض، وقد خاضوا نضالات بارزة ضد الاستعمار الفرنسي، وكان لهم دور محوري في الثورة السورية الكبرى (1925) بقيادة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش.
2. لبنان: قوة سياسية وطائفية
في لبنان، يُشكّل الدروز حوالي 5% من السكان، ويُقدَّر عددهم بنحو 250–300 ألف نسمة. ويتوزعون جغرافيًا في:
-
جبل لبنان (الشوف، عاليه، المتن)
-
جنوب لبنان (حاصبيا، راشيا، البقاع الغربي)
للدروز تمثيل سياسي رسمي في النظام الطائفي اللبناني، ولهم مقعد مخصص في البرلمان. وقد لعبوا دورًا سياسيًا بارزًا في الحياة اللبنانية، خاصة في مرحلة الحرب الأهلية. ومن أشهر قادتهم السياسيين كمال جنبلاط، ثم ابنه وليد جنبلاط، واليوم حفيده تيمور جنبلاط.
3. فلسطين وإسرائيل: طائفة ذات وضع خاص
يعيش نحو 140 ألف درزي داخل أراضي 1948 (إسرائيل اليوم)، يتوزعون بين:
-
الكرمل والجليل: مثل دالية الكرمل، عسفيا، يركا، جولس.
-
هضبة الجولان المحتلة: مثل مجدل شمس، بقعاتا، مسعدة.
تُعتبر الطائفة الدرزية في إسرائيل حالة فريدة، إذ يخدم أغلب شبابها في الجيش الإسرائيلي، وقد مُنحوا وضعًا قانونيًا خاصًا يميزهم عن باقي المواطنين العرب، ما أدى إلى انقسام داخلي في نظرتهم لهذه العلاقة، خاصة بعد قانون “الدولة القومية” الصادر عام 2018.
4. الأردن: حضور محدود
يُقدر عدد الدروز في الأردن بعدة آلاف فقط، يتمركز معظمهم في منطقة الأزرق وبعض المناطق الشمالية، وهم من أصول مهاجرة من سوريا ولبنان خلال فترات تاريخية سابقة.
5. الشتات: جاليات مهاجرة وناجحة
هاجر الآلاف من الدروز إلى أمريكا الجنوبية (خاصة البرازيل وفنزويلا)، وإلى الولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا. وعلى الرغم من اندماجهم في المجتمعات الغربية، إلا أنهم يحافظون على روابط ثقافية ودينية مع وطنهم الأصلي، عبر روابط اجتماعية ومؤسسات ثقافية.
البنية الاجتماعية والثقافية
يُعرف المجتمع الدرزي بترابطه القوي، وتمسكه بعاداته وتقاليده التي تتكامل مع تعاليم العقيدة. ومن أبرز سماته:
-
الزواج الداخلي: لا يُسمح عادة بالزواج من خارج الطائفة.
-
تمييز طبقي ديني: بين “العقال” و”الجهّال”، حيث يحتفظ العقال بالأسرار الدينية ويتزهدون في الحياة.
-
الحرص على التعليم والاندماج المدني: حيث يشجع الدروز على التحصيل العلمي والانخراط في مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على خصوصيتهم الدينية.
العلاقة مع الأنظمة والدولة
يتبنى الدروز مبدأ الولاء للدولة التي يعيشون فيها، وهو ما يفسر اندماجهم الكامل في الجيوش والإدارات الرسمية في كل من سوريا ولبنان وإسرائيل. في لبنان، يُعتبرون أحد “أركان النظام الطائفي”، بينما في سوريا لعبوا دورًا مقاومًا ووطنيًا بارزًا. أما في إسرائيل، فقد شكّل تعاونهم مع مؤسسات الدولة موضع جدل داخلي بين مؤيدين ومعارضين.
وفي كل الأحوال، يُظهر الدروز قدرة كبيرة على التكيّف السياسي، دون التفريط بهويتهم العقائدية.
ويمثّل الدروز حالة نادرة بين الطوائف الدينية في العالم العربي، فهم طائفة مغلقة عقائديًا، منفتحة اجتماعيًا، تجمع بين الروحانية الفلسفية والولاء الوطني. رغم محدودية عددهم، إلا أن تأثيرهم السياسي والاجتماعي يفوق حجمهم الديموغرافي، خصوصًا في لبنان وسوريا. وبفضل تمسكهم بهويتهم ومبادئهم، استمروا في البقاء والحفاظ على خصوصيتهم لأكثر من عشرة قرون، وما زالوا يشكلون عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا في محيطهم الإقليمي.
إقرأ المزيد :
هل تشعل غارات إسرائيل على دمشق والسويداء فتيل التصعيد في سوريا؟