أخبار عاجلةالرأي
رامي زهدي يكتب : كامل إدريس في القاهرة.. حين تختار الخرطوم مفتاح العبور من الأزمة عبر البوابة المصرية

في مشهد سياسي بالغ الرمزية والدقة، اختار رئيس الوزراء الانتقالي السوداني الدكتور كامل إدريس الطيب أن تكون أولى محطات زياراته الخارجية القاهرة، في لحظة فارقة من تاريخ السودان، حيث الحرب تستعر، ومؤسسات الدولة تتداعى، وحالة الانقسام الداخلي تهدد ما تبقى من بنية وطنية.
إنها زيارة لا تشبه غيرها، لا في توقيتها ولا في مغزاها، فهي إعلان ضمني بأن البوابة المصرية تظل الأكثر رسوخًا وصلابة، عندما يتعلق الأمر ببدء مسار انتقالي جاد، يُراد له أن يعيد للدولة السودانية وجهها، وللمؤسسات الوطنية حضورها، وللمواطن السوداني كرامته وحقه في الحياة.
اختيار الدكتور كامل إدريس القاهرة كأول محطة خارجية ليس قرارًا بروتوكوليًا عابرًا، بل موقف استراتيجي محسوب من رجل يدرك حجم التحديات، ويعرف جيدًا من أين تبدأ خطوات استعادة الدولة.. فالدكتور كامل إدريس، الأكاديمي المعروف، والوجه المدني الذي حاز ثقة عدد من القوى الوطنية المؤثرة، يقرأ المشهد السوداني بعين الباحث وخبرة رجل دولة، ويعلم أن التجربة المصرية في إدارة الانتقال السياسي رغم اختلاف السياقات تمثل نموذجًا جديرًا بالدراسة، خصوصًا في معادلة التوازن بين الاستقرار والسيادة والإصلاح.
العلاقة بين مصر والسودان ليست مجرد علاقة جوار، ولا حتى امتدادًا لتاريخ مشترك، بل هي علاقة مصير مشترك وتشابك عضوي في ملفات الأمن القومي، والمياه، والهوية، والتنمية.. مصر، التي تستضيف اليوم أكثر من 5 ملايين سوداني على أراضيها، لم تتعامل مع الأزمة كملف خارجي، بل كمسؤولية نابعة من موقعها، والتزامها، وثقلها الإقليمي والدولي.
وهنا تتضح أهمية زيارة الدكتور كامل إدريس إلى القاهرة في هذا التوقيت المعقد، حيث المنطقة بأسرها تتقاطع فيها المبادرات، وتتنازعها الأجندات، ويصبح الدور المصري الضامن لوحدة السودان واستقراره، هو الأكثر توازنًا وقبولًا في الداخل السوداني وخارجه.
الاستقبال الرئاسي الذي حظي به إدريس من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تلاه من مباحثات مهمة مع الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء المصري، يحمل إشارات واضحة تتجاوز المجاملة البروتوكولية، نحو رسائل دعم سياسي مباشر، وتأكيد مصري لا يتزحزح على دعم وحدة السودان، ورفض أي سيناريوهات تقسيم أو تفكيك.
كما أن الاجتماع الموسع بين الجانبين ألقى الضوء على عدة محاور حيوية، تشمل جهود إنهاء الحرب ووقف إطلاق النار، عبر التنسيق مع القوى السودانية والإقليمية والدولية، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، خصوصًا في قطاعات البنية التحتية، الصحة، التعليم، والطاقة.
وكذلك، تفعيل مشروعات النقل والتكامل الإقليمي، وفي مقدمتها مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالمتوسط، الذي يعد السودان أحد ركائزه، والتعاون الأمني وحماية الحدود، ومكافحة الإرهاب والتهريب , وأيضا، إحياء مؤسسات الدولة وتدريب الكوادر السودانية، بدعم مصري فني ولوجيستي.
موقف مصر من السودان لا يقوم على منطق الانحياز، بل على إدراك عميق بأن استقرار السودان هو امتداد مباشر للأمن القومي المصري , ففي الوقت الذي تنشغل فيه عواصم دولية بمحاولات الوساطة أو استعراض المبادرات، تتقدم القاهرة بموقف مسؤول، ثابت، وفاعل، يرى في دعم السودان ضرورة استراتيجية، لا خيارًا دبلوماسيًا.
ومن خلال دعمها الكامل لحكومة إدريس الانتقالية، تقدم مصر نموذجًا عربيًا وأفريقيًا للدعم القائم على احترام الإرادة الوطنية السودانية، دون تدخل أو فرض وصاية، لكنها لا تتأخر حين يُطلب منها الدعم أو حين يكون الصمت خذلانًا.
رسائل إدريس من القاهرة.. ثلاثية الاتجاه
زيارة الدكتور كامل إدريس إلى القاهرة حملت ثلاث رسائل مركزية، اولها إلى الداخل السوداني، وهي أن الدولة تعود، وأن الشرعية المدنية قادرة على تمثيل السودان من جديد.
ثم، إلى المجتمع الدولي، وهي أن السودان لا يزال منفتحًا على محيطه الطبيعي، وأن بوابته الأهم للتواصل الدولي هي مصر.
وأخيرا، إلى دول الجوار بأن محور الاستقرار يتشكل، وأن الخرطوم–القاهرة سيكون حجر الزاوية فيه.
أهمية هذه الزيارة تكمن في أنها بداية لسلسلة خطوات يجب أن تتبعها، تشمل تشكيل لجان فنية مشتركة، وبلورة خطط تنموية واقتصادية واضحة، وتفعيل دبلوماسية التنمية والسلام.
وكذلك، فتح قنوات تنسيق سياسي مستمر مع القاهرة في ملف إدارة المرحلة الانتقالية، وما بعدها.
فـالقاهرة لا تنتظر الطلب، بل تبادر بالفعل، وتُعيد في كل مرة التأكيد على أن دورها في السودان ليس طارئًا، بل راسخ ومتجذر في الوعي والمسؤولية.
إن ما يجمع مصر والسودان لا يقتصر على نهر أو بحر او حدود، بل على تحديات وجودية لا يمكن لأي من البلدين تجاوزها منفردًا. ولعل زيارة إدريس تؤكد مرة أخرى أن من يريد للسودان طريقًا آمنًا نحو المستقبل، فعليه أن يعبره من بوابة القاهرة.
- رامي زهدي – خبير الشؤون الإفريقية، نائب رئيس حزب الوعي للشؤون الإفريقية .
إقرأ المزيد :