أخبار عاجلةالرأي

اسيا العتروس تكتب : من هيروشيما إلى غزة كيف غرق العالم في منطق الحرب ؟

في حياة الصحفي محطات مختلفة تمنحه الفرصة للوقوف على أحداث كان لها وقعها في العالم و في تحديد توجهات النظام العالمي مع كل صراع أو حرب جديدة … قبل سنوات و تحديدا زرت اليابان خلال الذكرى الخامسة والستين لهجوم هيروشيما و كان من بين أهم عناوين الجولة اليابانية زيارة إلى مدينة هيروشيما الواقعة في جزيرة هونشو و زيارة نصب السلام التذكاري هناك و ما يحتضنه من مخلفات الهجوم الفظيع على حياة اليابانيين حتى يقف عليه كل من يزور هيروشيما , ولكن كان الأهم الاستماع لشهادات ما عايشوا الهجوم و المحنة التي مروا بها قبل أن يكتب لهم النجاة من موت محقق .

كان محدثنا متقدم في السن و لكنه كان يتحدث عن الهجوم بكثير من الألم و بأدق التفاصيل التي تصعب على المستمع كان يتحدث كما لو أن ما حدث كان بالأمس يقول أنه لا يدري كم مضى من الوقت عندما أفاق من الغيبوبة ليجد نفسه ملقى على بطنه و ممنوع عليه التحرك فقد احترق جسده بالكامل و تم إنقاذه فيما اختفى كل أفراد عائلته ..دون مزيد التفاصيل يقول محدثنا أنه ظل في تلك الوضعية طوال أشهر قبل أن يتمكن الأطباء من علاج حروقه و يبدأ في التدرب على الحياة من جديد و أن القطر حيث دائرة القصف احترق بالكامل و لم يعد في هيروشيما نبتة أو شجرة و ساد اعتقاد أنها النهاية و أن الأرض لا يمكن أن تنبت شيئا بعد القصف الذري الأمريكي الذي استهدف المدينة .

ويخلص الشاهد وهو كذلك أحد ضحايا هجوم هيروشيما أنه بعد مضي أكثر من عام على القصف ظهرت بعض الأعشاب تنبت من بين الصخور و الأنقاض والمزابل انتبه اليابانيون الأمر في حينه ..لم ينتظر اليابانيون طويلا وأدركوا أن توقعات الباحثين بأن الأرض لن تنبت من جديد واهية وانطلق من كانت امكانياتهم الصحية تسمح لهم بذلك في زرع كل شبر من الأرض يمكن زراعته والنهاية كما يعرفها العالم كانت بداية تحول اليابان من بلد مهزوم أهين في كرامته وعقيدته ومقدساته إلى أحد البلدان الأكثر تقدما ورقيا بين شعوب الأرض .

طبعا سيكون من الاجحاف ومن غير الصواب مقارنة ما حدث في هيروشيما بما يجري اليوم في غزة و لكن وجب الإشارة أن الدول الكبرى التي وضعت حدا لطموحات الياباني للحصول على القنبلة الذرية وهي أمريكا وبريطانيا سعت إلى إعادة إعمار وبناء اليابان و استعادة شعبه حقه في الحياة برغم الدستور الجديد الذي منع اليابان من أن يكون لها جيش وفرض وجود القواعد العسكرية الأمريكية على أرضها حتى اليوم. فرضت نتائج الحرب العالمية الثانية على المجتمع الدولي تغيير قواعد اللعبة والانتصار لحق الشعوب في الحرية والاستقلال وحقها في النضال ولكن أيضا للقيم الكونية المشتركة و تحقيق الأمن والسلام للجميع و لكن تنافس القوى الكبرى و مخاطر الحرب الباردة و تأسيس كيان الإحتلال الإسرائيلي على أكثر من نصف أرض فلسطين و المظالم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني من مجازر و تهجير قسري و تجويع سيجعل من منطقة الشرق الأوسط ساحة من الصراعات التي لا تنتهي و سيزيد الانحياز الأعمى للقوى الكبرى للحليف الإسرائيلي في تحويل المنطقة إلى برميل بارود متفجر .

نعم ثمانون عاما فصلت بين القصف الأمريكي الذي استهدف مدينتي هيروشيما وناكازاكي في أوت 1945 باستخدام القنابل الذرية لأول مرة في تاريخ الحروب و بين حرب الإبادة المستمرة في غزة و ما خلفته على مدى نحو سنتين من تصفية عرقية و من تهجير و تجويع , و كنا مخطئين عندما صدقنا العالم بأنه لن يسمح بتكرار ما حدث و قناعتنا أنه لولا صمت العالم و تواطئه و تبريراته للاحتلال و لجرائمه لما امتدت الحرب كل هذا الوقت و لما استمر مجرم الحرب نتنياهو في جر العالم الحر ليصبح شريكا له و ممولا و داعما له في هذه الحرب القذرة .

غزة اليوم هي الشاهد و الشهيدة التي فضحت المجتمع الدولي والانحياز الخطير للجلاد على حساب الضحية كما كشفت قصور العدالة الدولية و موت الضمير الإنساني الدولي و معه انهيار قوة ديبلوماسية السلام مقابل هيمنة منطق الحرب ..و قد كان بالامكان منع وقوع عشرات آلاف الضحايا في غزة لو توفر الحد الأدنى من الديبلوماسية والحكمة لإنهاء واحد من أخطر و أعقد الصراعات التي جعلت العالم أكثر توحشا مع استفحال ديبلوماسية قانون الغاب و هيمنة القوي على الضعيف لان المتحكمين في قواعد اللعبة يرفضون محاسبة و مسائلة المعتدي و يصرون على منحه حصانة بلا حدود لأن في ذلك ما يؤمن مصالحهم و يحررهم من تحمل مسؤولياتهم التاريخية ازاء المحرقة اليهودية و عقدة الذنب التي وجد فيها الصهاينة الشماعة لتبرير ما يرتكبونه من جرائم حرب و جرائم إبادة .

لقد جاء الهجوم الأمريكي بعد رفض اليابان إعلان مؤتمر بوتسدام و القبول بالاستسلام دون أي قيد أو شرط بموجب الأمر التنفيذي للرئيس الامريكي هاري ترومان آنذاك ..أطلقت واشنطن سلاح الولد الصغير على هيروشيما في السادس من أوت و اردفته بسلاح الرجل البدين على ناكازاكي في التاسع من أوت و كانت النتيجة سحابة غطت هيروشيما و أحرقت الأخضر و اليابس و تسببت حينها في مقتل 140 ألف شخص حسب حصيلة أولية .

نستحضر ما حدث في هيروشيما و أعيننا على غزة المنكوبة , و لاشك أن في حجم الخراب والدمار وعدد الضحايا والمجوعين بعد أن تحول التجويع إلى سلاح حرب للفتك بالاطفال و النساء و الرجال و كل الصور المروعة القادمة من غزة تشهد أنها تتجاوز في فظاعاتها ما حدث في مدينتي هيروشيما ونكازاكي مع اختلاف مهم أن ما يجري اليوم في غزة تحول الى فرجة وينقل إلى كل العالم على المباشر ..

كل عام ومنذ القصف الذي تعرضت له مدينتي هيروشيما وناغازاكي تحي اليابان ومعها شعوب العالم الذكرى الذكرى السنوية للقصف الذي رفضت أمريكا أن تعتذر عنه و مع كل ذكرى تتواتر البيانات و الدعوات لإيقاف الحروب و إلغاء سباق التسلح النووي .

و في كل عام ينسى العالم ما دعا إليه و يتجاهل الصراعات و الحروب و المظالم المستمرة و أخطرها و أطولها المظلمة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من الضفة إلى غزة التي تحولت إلى مقبرة مفتوحة لا يملك فيها أهالي غزة إلا أن يختاروا بين الموت قصفا أو الموت جوعا .

لم تعتذر أمريكا أبدا عما حدث في اليابان و قد وصف الرئيس ترامب الهجوم الاسرائيلي على إيران بأنه بمثابة هجوم هيروشيما و ناكازاكي و لكن وجب التذكير أن اليابان بعد هذا القصف و ما خلفه من خراب و دمار وجد كل الدعم لإعادة اعمار اليابان و تعزيز إمكانيات الشعب الياباني لتجاوز محنته و بناء قوته الاقتصادية و التكنولوجية و المعرفية و منافسة القوى الاقتصادية الآسيوية الكبرى.

قال الرئيس الأمريكي هاري ترومان بعد قصف هيروشيما كلمته الشهيرة التي دونت على أحد الجدران في واشنطن أنه رأى الحرب و أنه يكره الحرب I HAVE SEEN WARS ON LAND AND SEE I HAVE SEEN BLOOD RUNNING FROM THE WOUNDED I HAVE SEEN CITIES DESTROYED I HAVE SEEN CHILDREN STARVING I HAVE SEEN THE AGONY OF MOTHERS AND WIVES

I HATE WARS   و قد سمع أهالي غزة كلمات مماثلة من الرئيس ترامب حول المجاعة في غزة و أهوال الحرب و لكن تبقى كلمات للتسويق و الدعاية الإعلامية لمنح الإحتلال و مجرم الحرب نتنياهو ما يكفي من الوقت للانتهاء من جرائمه .

* اسيا العتروس .. كاتبة و صحفية تونسية .

 

اقرأ المزيد

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »