الاتحاد الأفريقي يقود ثورة خرائطية لاستعادة مكانة القارة السمراء

في خطوة تحمل أبعاداً ثقافية وسياسية عميقة، أطلق الاتحاد الأفريقي يوم 15 أغسطس 2025 حملة دولية لاعتماد خريطة “الأرض المتساوية” (Equal Earth) بديلاً عن خريطة “ميركاتور” التاريخية التي شوهت صورة أفريقيا لأكثر من 4 قرون. وتأتي هذه المبادرة ضمن معركة أوسع لتصحيح التصورات العالمية عن القارة .
جوهر الأزمة: تشويه مركاتور المنهجي
تعود جذور المشكلة إلى عام 1569، عندما ابتكر رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس مركاتور إسقاطاً أسطوانياً لخدمة أغراض الملاحة البحرية. لكن هذه التقنية تسببت في
تضخيم المناطق القطبية: حيث تبدو جرينلاند (2.16 مليون كم²) أكبر من أفريقيا (30.37 مليون كم²) رغم أن الأخيرة أكبر منها 14 مرة .
-تقليص مساحة أفريقيا: تُظهر خريطة مركاتور أفريقيا أصغر من روسيا (17 مليون كم² مقابل 16.5 مليون كم² واقعياً)، بينما تفوقها حجماً فعلياً بنسبة 85% .
– آثار نفسية عميقة: وفقاً لسلمى مليكة حدادي (نائبة رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي)، ترسّخ هذه الخريطة انطباعاً زائفاً بأفريقيا كـ”قارة هامشية” رغم أنها موطن لأكثر من مليار نسمة وثاني أكبر قارة بالعالم .
حملة “صحّحوا الخريطة”: تحالف أفريقي لمواجهة أطول حملة تضليل
تقود المنظمات الأفريقية هذا التحرك تحت مظلة “كوريكت ذا ماب” (Correct the Map)، بدعم من: “أفريقيا بلا فلتر”: وصفتها المديرة موكي ماكورا خريطة مركاتور بأنها “أطول حملة تضليل في التاريخ”.
– “تحدثوا باسم أفريقيا”: أكدت المؤسسة المشاركة فارة نداي أن التشويه الخرائطي “يُضعف هوية الأطفال الأفارقة وانتماءهم” .
وتركز الحملة على إقناع المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي والأمم المتحدة باعتماد إسقاط “الأرض المتساوية” الذي أُنتج عام 2018، والذي يحافظ على التناسب الحقيقي للمساحات دون تشويه .
استراتيجية التغيير: من المناهج الدراسية إلى السياسات العالمية
يسعى الاتحاد الأفريقي لتنفيذ خطة متعددة المستويات: 1. إصلاح التعليم: إدراج الخرائط الدقيقة في مناهج الدول الأفريقية لتعزيز الهوية لدى الأجيال الجديدة.
2. ضغط مؤسسي: تنسيق تحركات جماعية مع الدول الأعضاء الـ55 لتبني الخريطة الجديدة في المحافل الدولية .
3. عدالة تاريخية: تربط حدادي المبادرة بمطالب “التعويض عن الاستعمار والعبودية”، مؤكدة أنها خطوة لاستعادة المكانة الجيوسياسية لأفريقيا .
تحولات عالمية: بوادر التغيير تلوح في الأفق
رغم هيمنة مركاتور لعقود، بدأت مؤشرات التغيير تظهر:
– البنك الدولي: يستخدم إسقاط “وينكل-تريبل” (شقيق “الأرض المتساوية”) في خرائطه الثابتة، ويتخلص تدريجياً من مركاتور في الخرائط الرقمية.
– جوجل: اعتمدت عرض الكرة الأرضية ثلاثي الأبعاد على نسخة سطح المكتب منذ 2018 (رغم بقاء الهواتف على الإسقاط القديم) .
– مبادرات تكنولوجية: تعاون “Esri” و”Microsoft” و”Space42″ في “مبادرة خريطة أفريقيا” لإنشاء خرائط أساسية عالية الدقة تدعم التخطيط الحضري والاستجابة للكوارث .
الأبعاد الخفية: الخريطة كسلاح جيوسياسي
تتجاوز المعركة الدقة التقنية لتلامس صراع الهيمنة الثقافية:
– الإعلام الغربي: وفقاً لتحليل موقع “قنطرة”، يصور 78% من التغطيات الغربية أفريقيا كمساحة للجوع والأمراض والحروب، مع تجاهل تعقيداتها الحضارية .
– الأدب الاستعماري: ساهمت أعمال مثل “قلب الظلام” لجوزف كونراد في ترسيخ الصورة النمطية، مستندة إلى خيال كتّاب لم يطأوا أرض القارة.
– اقتصاد الصورة: تُستخدم الخرائط المشوهة لتبرير سياسات المساعدات أحادية الاتجاه، بينما تُخفي حقيقة أن أفريقيا مصدر لـ$2.4 تريليون من الناتج العالمي .
خارطة الطريق نحو العدالة الخرائطية
يمثل التحول لخرائط “الأرض المتساوية” أكثر من تصحيح رياضي؛ إنه إعادة تعريف لعلاقة أفريقيا بالعالم. وفي ظل دعم كاريبي متنامٍ (مثل لجنة تعويضات الكاريبي) ، قد تشهد السنوات القادمة:
– إعادة كتابة الكتب الجغرافية العالمية.
– تطوير أدوات خرائطية دقيقة مثل “AlphaEarth” من جوجل الذي يعتمد ذكاءً اصطناعياً لرصد التغيرات البيئية .
– صعود نماذج “الخرائط التشاركية” التي ينتجها الأفارقة بأنفسهم عبر مبادرات مثل “خريطة إفريقيا” .
“ليست مجرد خريطة، بل صورة ذهنية ترسخت لعقود” – سلمى حدادي تلخص جوهر المعركة .
هذه الثورة الخرائطية تذكرنا بأن تمثيل العالم ليس حيادياً أبداً؛ إنه ساحة صراع على القوة والهوية والذاكرة. وبينما تبدأ خرائط مركاتور بالتلاشي، تبرز على الأفق معالم أفريقيا الحقيقية: قارة الـ 30 مليون كم² التي تتسع لـ “الصين والهند والولايات المتحدة وأوروبا واليابان مجتمعة” – وهي الحقيقة التي طمستها إسقاطات الملاحة الاستعمارية .