الدكتور محمود أحمد فراج يكتب: الاقتصاد الأزرق.. محرك التنمية المستدامة في مصر وإفريقيا ودور القيادة المصرية

يمثل الاقتصاد الأزرق، الذي يُعنى بالاستخدام المستدام للموارد المائية وحماية البحار والمحيطات، مفهوماً حديثاً ومبتكراً في عالم الاقتصاد.. وقد برزت أهميته بشكل خاص في ظل التحديات العالمية الراهنة مثل تغير المناخ، ندرة الموارد، والبحث عن سبل مستدامة للنمو الاقتصادي.
يهدف الاقتصاد الأزرق إلى تحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين سبل المعيشة وتوفير فرص العمل، مع الحفاظ على صحة النظم البيئية البحرية، وتتماشى أهدافه بشكل وثيق مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، لا سيما الهدف الرابع عشر “الحياة تحت الماء”.. تمتلك كل من مصر والقارة الإفريقية إمكانات بحرية هائلة تجعلهما مؤهلتين للعب دور ريادي في هذا المجال.
أهمية الاقتصاد الأزرق للتنمية
1. النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل: يعتبر الاقتصاد الأزرق مصدراً حيوياً للنمو الاقتصادي، حيث تقدر قيمة الموارد والصناعات البحرية بنحو 3 تريليونات دولار سنوياً، مع توقعات بوصولها إلى 24 تريليون دولار عالمياً. ويوفر هذا القطاع سبل عيش لأكثر من 3 مليارات شخص عالمياً، ويوفر حوالي 5.4 مليون وظيفة في أوروبا وحدها.
2. الأمن الغذائي والقضاء على الفقر: تسهم المحيطات كمصدر رئيسي للبروتين والغذاء، وتوفر فرص عمل في مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية، مما يدعم الأمن الغذائي ويحارب الفقر.
3. الاستخدام المستدام للموارد: يركز الاقتصاد الأزرق على الإدارة الرشيدة للموارد المائية، والبحار، والمحيطات، والبحيرات، مما يضمن الاستغلال الأمثل لهذه الموارد مع الحفاظ على النظم البيئية البحرية والساحلية سليمة ومستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية.
4. مواجهة تحديات التغير المناخي: تلعب المحيطات دوراً حيوياً في التخفيف من آثار التغيرات المناخية، حيث تمتص 90% من الحرارة الزائدة و23% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يسببها الإنسان. كما تساهم النظم الإيكولوجية الساحلية كأشجار المانجروف والشعاب المرجانية في عزل الكربون وحماية السواحل من الفيضانات والتآكل.
5. تحقيق أهداف التنمية المستدامة: يدعم الاقتصاد الأزرق بشكل مباشر الهدف 14 من أهداف التنمية المستدامة، ويرتبط أيضاً بمعظم الأهداف الأخرى بطرق متنوعة، مثل القضاء على الفقر، الأمن الغذائي، العمل اللائق والنمو الاقتصادي، المدن والمجتمعات المستدامة، والعمل المناخي.
أبرز قطاعات الاقتصاد الأزرق وفرص الاستثمار
تتعدد قطاعات الاقتصاد الأزرق لتشمل الأنشطة الاقتصادية القائمة والناشئة المتعلقة بالمحيطات والبحار والسواحل.
• الصيد البحري وتربية الأحياء المائية: يُعد هذا القطاع حيوياً للأمن الغذائي العالمي وتوفير فرص العمل، حيث يوفر العديد من المواد الأولية للصناعات المختلفة. في مصر، يعتمد الإنتاج السمكي بشكل كبير على المزارع السمكية.
• النقل البحري والموانئ واللوجستيات: يمثل وسيلة نقل رئيسية للسلع، حيث تجاوزت حصة التجارة البحرية 72% من حجم التجارة الدولية في عام 2021. تمتلك مصر 48 ميناءً، وتسعى لتحويل موانئها إلى مراكز لوجستية عالمية.
• السياحة الساحلية والبحرية: تعتبر مصدراً مهماً للدخل والعملة الأجنبية. تستحوذ السياحة الشاطئية في مصر على أكثر من 90% من حركة السياحة الوافدة.
• الطاقة المتجددة البحرية: تشمل طاقة الرياح البحرية، الأمواج، المد والجزر، والطاقة الشمسية البحرية. تدعم مصر تطوير هذا القطاع ضمن استراتيجيتها للطاقة المستدامة.
• التعدين البحري: استخراج النفط والغاز والمعادن من قاع البحار. شهدت مصر اكتشافات مهمة لحقول الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.
• التكنولوجيا الحيوية الزرقاء: يشمل هذا القطاع المتنامي تطوير منتجات وخدمات جديدة من الكائنات المائية، مثل المستحضرات الكيميائية والصيدلانية والغذائية.
• تحلية المياه وإدارة النفايات: تعد تحلية مياه البحر حلاً لندرة المياه، بينما تسهم إدارة النفايات في تقليل التلوث. تعتزم مصر بناء 39 محطة لتحلية المياه.
التحديات التي تواجه الاقتصاد الأزرق
يواجه الاقتصاد الأزرق في مصر وإفريقيا العديد من التحديات التي تعيق تحقيق كامل إمكاناته.
1. تغير المناخ وآثاره المدمرة: يشكل تغير المناخ التحدي الأبرز، حيث يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر، تدهور البيئة البحرية، تحمض المحيطات، وتبيض الشعاب المرجانية. هذه الآثار تضر بمصايد الأسماك، السياحة، والبنية التحتية الساحلية.
2. التلوث البحري: يعد التلوث البحري بأنواعه المختلفة، مثل المخلفات الصناعية والبلاستيكية، الصرف الصحي غير المعالج، وانسكابات النفط، تهديداً كبيراً للنظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي البحري.
3. الصيد الجائر وغير القانوني وغير المنظم (IUU): يستنزف هذا النوع من الصيد الثروة السمكية ويهدد الأمن الغذائي، وينتشر بشكل واسع في غرب إفريقيا.
4. ضعف البنية التحتية والقدرات التشغيلية: تعاني الموانئ والخدمات اللوجستية في العديد من الدول الإفريقية من نقص في الكفاءة والقدرات التشغيلية.
5. نقص التمويل والاستثمار: لا تزال العديد من قطاعات الاقتصاد الأزرق تعاني من نقص التمويل اللازم لتطويرها واستغلالها بشكل مستدام.
6. التشريعات والإدارة غير الفعالة: تعيق البيروقراطية، وغموض السياسات، وضعف آليات المراقبة والإنفاذ تطوير الاقتصاد الأزرق.
7. قلة الوعي المجتمعي: بصفة عامة، يوجد افتقار للوعي العام بقيمة البحار والمحيطات وأهمية الاقتصاد الأزرق ودوره في تحقيق التنمية المستدامة.
8. التنافس الجيوسياسي: مثل طريق بحر الشمال الذي يمثل بديلاً لقناة السويس، مما يؤثر على إيراداتها.
9. الأنواع غير المتوطنة: يشكل وجود حوالي ألف نوع من هذه الأنواع في البحر المتوسط تهديداً للتنوع البيولوجي البحري.
قيادة مصر للاقتصاد الأزرق في إفريقيا: فرص واقتراحات
تمتلك مصر مقومات فريدة تمكنها من قيادة الاقتصاد الأزرق في المنطقة الإفريقية.
1. الموقع الجغرافي الاستراتيجي: يربط موقع مصر المتميز القارات الثلاث (آسيا وإفريقيا وأوروبا) عبر البحرين الأحمر والمتوسط وقناة السويس ونهر النيل، مما يجعلها مركزاً لوجستياً وتجارياً إقليمياً وعالمياً.
2. تطوير البنية التحتية والموانئ: يتوجب تحويل الموانئ المصرية إلى موانئ خضراء وذكية، وتطوير المناطق اللوجستية المحيطة بها لزيادة قدرتها التنافسية. كما يجب زيادة خطوط الملاحة البحرية بين مصر ودول القارة وإنشاء مواقع لوجستية لزيادة معدلات التجارة.
3. تعزيز البحث العلمي والابتكار: يتطلب الأمر إنشاء مراكز أبحاث متخصصة في العلوم البحرية، ودعم الابتكار في التقنيات الصديقة للبيئة والطاقة المتجددة.
4. بناء القدرات وتنمية المهارات: يجب التركيز على تطوير برامج تدريبية متخصصة للعاملين في القطاعات البحرية والصيد. كما يجب توعية المجتمع بأهمية الاقتصاد الأزرق.
5. تفعيل الشراكات الدولية والإقليمية: يجب تعميق الروابط مع المنظمات الدولية المعنية بحماية البيئة البحرية، وتعزيز التعاون مع الدول الإفريقية لتبادل الخبرات وتنسيق الجهود التنموية.
6. سياسات الاستثمار المستدام والتمويل المبتكر: طرح السندات الزرقاء كأحد أدوات التمويل المبتكرة لمشروعات الاقتصاد الأزرق، وتوفير الحوافز الضريبية والمساعدات الحكومية لجذب الاستثمارات.
7. الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية والتخطيط المكاني البحري: يتطلب الأمر وضع خطط شاملة لحماية وتنمية المناطق الساحلية، والتعامل مع آثار التغير المناخي بطريقة شفافة.
8. الريادة في المشروعات الخضراء والزرقاء: قامت مصر بالفعل بخطوات نحو الاقتصاد الأزرق بإنشاء 51 مصنعاً لإعادة التدوير حتى عام 2020، وتشغيل محطات إرشاد بالطاقة المتجددة في قناة السويس، وتدشين أول مصنع في العالم لتحويل المخلفات إلى هيدروجين في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بالإضافة إلى محطات تحلية ومعالجة المياه.
آفاق الاستثمار في الاقتصاد الأزرق بمصر وإفريقيا
في مصر:
• المنطقة الاقتصادية لقناة السويس: تُعد هذه المنطقة واعدة لجذب الاستثمارات في الصناعات المرتبطة بالاقتصاد الأزرق.
• تطوير الموانئ واللوجستيات البحرية: تحديث وتطوير الموانئ البحرية المصرية لزيادة قدرتها التنافسية واستيعاب السفن العملاقة.
• التوسع في مزارع الأسماك وتربية الأحياء المائية: لزيادة مستويات الإنتاج وتحسين فرص التصدير وتحقيق الأمن الغذائي.
• السياحة الشاطئية والبيئية: تطوير برامج التوعية بالمناطق الساحلية العالجية، وتنمية التعاون في مجال السياحة المستدامة، وتبادل أفضل الممارسات في حماية البيئة والتراث.
• الطاقة المتجددة وتحلية المياه: الاستثمار في محطات تحلية المياه التي تعمل بالطاقة المتجددة البحرية.
• التكنولوجيا الحيوية البحرية: تشجيع البحث العلمي والتكنولوجي في هذا المجال.
في إفريقيا:
• زيادة الاستثمار البحري: في البنية التحتية للموانئ وتنمية الموارد السياحية البحرية لزيادة حجم التجارة والنقل البحري.
• الشراكات الفعالة مع الدول الكبرى: للاستفادة من الموارد البحرية دون استنزاف أو استغلال من تلك الدول للموارد الإفريقية الفقيرة.
• تطوير ممرات الشحن البحري وخدماته: لزيادة حجم التجارة والنقل البحري وتطوير إجراءات التشغيل المتعلقة بالتصدير والاستيراد.
• الاستفادة من الطحالب البحرية: التي تحتوي على مركبات ذات أهمية في تغذية الإنسان والحيوان والأحياء المائية، وتدخل في صناعة الأسمدة الحيوية والمستحضرات الطبية والتجميلية.
الخاتمة
إن الاقتصاد الأزرق يحمل إمكانات تحويلية هائلة لتحقيق التنمية المستدامة في مصر والقارة الإفريقية. وعلى الرغم من التحديات البيئية والاقتصادية والإدارية، فإن موقع مصر الاستراتيجي، ومواردها البحرية المتنوعة، وجهودها المبذولة في المشروعات الخضراء والزرقاء، يضعها في موقع فريد لقيادة هذا التحول. تتطلب هذه القيادة تبني استراتيجيات متكاملة، وتمويلاً مبتكراً، وحوكمة قوية، وتعاوناً إقليمياً ودولياً لتعظيم الاستفادة من هذه الموارد الثمينة وتحقيق الازدهار المستدام للأجيال الحالية والمستقبلية.
اقرأ المزيد