رامي زهدي يكتب : مصر وأوغندا ورواندا.. رسائل القاهرة المتجددة لحوض النيل بين الأمن والتنمية والتكامل

قراءة في زيارتي رئيسي أوغندا ورواندا للقاهرة خلال أقل من شهر
في أقل من شهر واحد، استقبلت القاهرة رئيسي أوغندا ورواندا، في حدث يعكس ثِقَل الدور المصري في محيطه الإفريقي، خصوصاً داخل حوض النيل, هذه الزيارات ليست بروتوكولية عابرة، وإنما رسائل متعددة الأبعاد سياسية وأمنية واقتصادية، تؤكد أن مصر تتحرك بخطى محسوبة لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية قادرة على صياغة مستقبل المنطقة.
لقد أثبتت مصر تاريخياً أنها اللاعب الأكثر ثباتاً في معادلة النيل، وهي اليوم تؤكد ذلك مجدداً عبر بناء شراكات استراتيجية مع دول المنبع، بما يضمن حماية مصالحها القومية، وفي الوقت نفسه يفتح أبواباً واسعة للتعاون والتنمية المشتركة.
زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، والرئيس الرواندي بول كاجامي، خلال فترة زمنية قصيرة، تحمل إشارة قوية بأن القاهرة أصبحت مركزاً إقليمياً لصياغة التوازنات.
فأوغندا التي تحتضن بحيرة فيكتوريا، منبع النيل الأبيض، تمثل طرفاً أساسياً في أي معادلة تخص المياه، أما رواندا، فرغم أنها دولة صغيرة جغرافياً، إلا أنها تُعد نموذجاً للاستقرار الاقتصادي، وذات ثقل سياسي متنامٍ داخل الاتحاد الإفريقي.
هذا حيث تشير تقارير إقليمية إلى أن أكثر من 20 دولة إفريقية أعادت ترتيب أولوياتها في السنوات الأخيرة بناءً على التحركات المصرية الإيجابية، ما يعكس تأثير القاهرة على مستوى السياسات الإفريقية المرتبطة بالنيل.
القاهرة تدرك أن تحقيق الأمن المائي لا ينفصل عن الأمن الإقليمي، فالمخاطر التي تواجه دول حوض النيل لا تقتصر على شح الموارد، بل تمتد إلى الإرهاب العابر للحدود، وتهريب السلاح، والصراعات الداخلية.
مصر وقّعت أكثر من 15 اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع دول شرق إفريقيا خلال العقد الأخير، بينها برامج لتدريب الجيوش الإفريقية، ودورات متقدمة في أكاديمية ناصر العسكرية العليا.
أوغندا تحديداََ تستفيد من الخبرات المصرية في مراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب في مناطق الشمال، بينما تعتمد رواندا على دعم القاهرة في مجالات بناء القدرات العسكرية وحفظ السلام، حيث تساهم بأكثر من 5 آلاف جندي في بعثات الأمم المتحدة بالكونغو وإفريقيا الوسطى.
وهذه الحقائق تثبت أن البعد العسكري ليس هامشياً في العلاقات، بل يمثل قاعدة لبناء شراكة متينة.
أما إقتصاديا، فالرسائل أكثر وضوحاََ، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر ودول حوض النيل نحو 2.3 مليار دولار في عام 2024، وهو رقم تضاعف تقريباً عن عام 2015 حين كان لا يتجاوز 1.2 مليار دولار.
مع أوغندا وحدها، ارتفعت الصادرات المصرية بنسبة 40% بين 2019 و2024، وشملت منتجات غذائية ودوائية ومواد بناء.
اما الاستثمارات المصرية في رواندا فقد تجاوزت 300 مليون دولار خلال السنوات الخمس الماضية، وتركزت في قطاعات الإنشاءات وتكنولوجيا المعلومات والخدمات اللوجستية.
ويُضاف إلى ذلك أن رواندا تُصنف ضمن الدول الإفريقية الأسرع نمواً، حيث بلغ معدل النمو فيها 7.5% عام 2023، بينما سجلت أوغندا 5.3% في نفس العام، وهو ما يجعل البلدين وجهتين مهمتين للاستثمارات المصرية الباحثة عن أسواق ناشئة.
وتظل ملفات البنية التحتية والمياه قلب معادلة المستقبل ومحور رسائل القاهرة المباشرة والغير مباشرة خاصة لدول حوض النيل، فالنيل يظل محور كل شيء. مصر تنظر إلى أوغندا باعتبارها الدولة التي تتحكم في منابع النيل الأبيض، بينما رواندا تساهم عبر شبكة أنهارها وروافدها في تغذية بحيرة فيكتوريا.
وتاريخياً، نفذت مصر ما يزيد على 40 مشروعاً مائياً في دول الحوض منذ سبعينيات القرن الماضي، بينها محطات قياس ومشروعات للري والكهرباء. وفي السنوات الأخيرة، أطلقت القاهرة مبادرات جديدة أبرزها مشروع الربط الكهربائي الذي يهدف إلى مد خطوط طاقة من مصر إلى السودان وأوغندا وصولاً إلى شرق إفريقيا، وكذلك مشروع الممر الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط، الذي يتوقع أن يختصر تكلفة النقل التجاري بين شرق ووسط إفريقيا ودول المتوسط بما يصل إلى 30%.
وتدرك القاهرة أن العلاقات لا تُبنى فقط بالاتفاقيات الرسمية، بل أيضاً من خلال القوة الناعمة، فالجامعات المصرية استقبلت أكثر من 20 ألف طالب إفريقي خلال العقد الماضي، بينهم مئات من أوغندا ورواندا.
والأزهر الشريف أرسل بعثات تعليمية ودعوية إلى البلدين، بينما وفرت الكنيسة القبطية برامج دعم اجتماعي وطبي.
إضافة إلي القوافل الطبية المصرية التي عالجت ما يزيد على 100 ألف مواطن إفريقي في أوغندا ورواندا منذ عام 2010.
هذه المبادرات تجعل صورة مصر في وعي المجتمعات الإفريقية أعمق من مجرد شريك اقتصادي أو سياسي، بل شريك إنساني وتنموي.
الزيارتان الأخيرتان لرئيسي أوغندا ورواندا إلى القاهرة ليستا حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل مؤشر واضح على أن مصر تتحرك في إفريقيا وفق رؤية متكاملة عبر حماية أمنها المائي، وبناء شراكات اقتصادية، وكذلك تطوير تعاون عسكري وأمني، وتعزيز قوتها الناعمة.
إنها رسائل للقارة والعالم معاً، بأن مصر لا تكتفي بالدفاع عن حقوقها، بل تسعى لصياغة مستقبل جديد لحوض النيل، يقوم على الأمن المشترك والتنمية المستدامة، ويضع القاهرة في موقع القلب من إفريقيا.
اقرأ المزيد