أخبار عاجلةالرأي

رامي زهدي يكتب : التكتلات الإفريقية.. أين تقف مصر من ديناميات التغيير؟

منذ تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، والقارة تسعى لبناء منظومة تكاملية قادرة على مواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، لكن الطريق لم يكن ممهداً، فقد تعثرت مشروعات كثيرة بفعل الانقسامات والصراعات، في حين تقدمت تكتلات إقليمية أخرى لتصبح اليوم ركيزة أساسية في بنية الاتحاد الإفريقي، ومن هنا يثور السؤال الاستراتيجي الهام، أين تقف مصر من ديناميات التغيير داخل التكتلات الإفريقية؟ وهل تتحرك القاهرة بما يتناسب مع وزنها التاريخي والحالي، أم أن أمامها ما تزال فرص لتعزيز دورها كقاطرة للتكامل والتعاون الإفريقي؟

تضم القارة الإفريقية اليوم ثمانية تكتلات اقتصادية إقليمية معترف بها من الاتحاد الإفريقي، أبرزها من حيث التأثير، الكوميسا (COMESA) وهي أكبرها من حيث عدد الدول (21 دولة) وتمثل سوقاً يتجاوز 640 مليون نسمة، بناتج محلي إجمالي يقترب من 930 مليار دولار، ثم السادك (SADC) وهي تكتل لدول جنوب القارة، وتضم 16 دولة بإجمالي ناتج يفوق 750 مليار دولار.
ثم إيكواس (ECOWAS) في غرب إفريقيا، وتعد من أنشط التكتلات في العمل السياسي والأمني بجانب الاقتصادي، بإجمالي ناتج يقترب من تريليون دولار، وأيضا تكتل شرق إفريقيا (EAC) والذي يضم سبع دول بناتج يقارب 340 مليار دولار، ويتحرك بقوة نحو إقامة اتحاد نقدي موحد.
وهذه التكتلات ليست مجرد أطر اقتصادية، بل أدوات لإعادة تشكيل ميزان القوى داخل القارة، حيث تلعب دوراً في ملفات السلم والأمن، وتعمل كبوابات للتفاوض مع الشركاء الدوليين.

وتمتلك مصر ميزة نادرة تجمع بين العمق الجغرافي في شمال إفريقيا، والانتماء النيلي، والانفتاح على البحرين المتوسط والأحمر، وهو ما يضعها في موقع استراتيجي وسط شبكة التكتلات، فمصر عضو فاعل في الكوميسا، ومرتبطة أيضاً بمبادرات التكامل الثلاثي بين الكوميسا والسادك وتجمع شرق إفريقيا، وهو المشروع الذي أسس لمنطقة تجارة حرة تضم أكثر من نصف سكان القارة وناتج إجمالي يفوق 1.5 تريليون دولار، والأن يتحرك الجميع في اتجاه الاتفاقية القارية الحرة الشاملة.

ومن منظور تاريخي، نجد أنه، لم يكن حضور مصر في هذه التكتلات حضوراً طارئاً، بل امتداداً لدور تاريخي متجذر، ففي مطلع التسعينيات كانت القاهرة من أبرز العواصم الداعمة لفكرة التجمعات الاقتصادية كمدخل لتسريع الوحدة الإفريقية، وفي عام 1998 استضافت مصر القمة التي شهدت الإعلان الرسمي عن إطلاق الكوميسا من القاهرة، لتصبح العاصمة المصرية مركزاً لتدشين أحد أهم التكتلات في القارة.
وفي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، برزت القاهرة كصاحبة مبادرات لتسهيل انضمام دول جديدة للكوميسا، فيما قامت مصر بدوراً محورياً في الدفع بالتكامل الاقتصادي عبر برامج التعاون الفني والتجار، وفي السنوات الأخيرة، عززت مصر هذا الدور برئاستها للاتحاد الإفريقي عام 2019 تحديدا، حيث دفعت بقوة نحو إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، لتفتح صفحة جديدة في قيادة أجندة التكامل القاري.

ورغم أن الصادرات المصرية لإفريقيا ارتفعت إلى نحو 9.8 مليار دولار عام 2024 (مقارنة بـ 4.7 مليار في 2020)، إلا أنها ما تزال تمثل أقل من 20% من إمكانات السوق الإفريقي لمصر، فالقاهرة قادرة على مضاعفة حجم التجارة البينية إذا استثمرت أكثر في سلاسل الإمداد، والمناطق اللوجستية، وربط الموانئ والسكك الحديدية.

بينما الاستثمارات المصرية في إفريقيا تتجاوز 13 مليار دولار، موزعة على قطاعات الطاقة، المقاولات، الزراعة، والبنية التحتية. غير أن المطلوب هو الانتقال من مشاريع منفردة إلى مشروعات تكاملية إقليمية مثل المناطق الصناعية المشتركة، أو مجمعات إنتاج الغذاء والطاقة التي تربط أكثر من دولة.

وبالتوازي مع ذلك، فإن مصر تملك وزناً خاصاً داخل مجلس السلم والأمن الإفريقي، كما أنها صاحبة مبادرات متكررة لدعم استقرار السودان وليبيا ومنطقة القرن الإفريقي، وتسعي مصر في أن يتحول هذا الدور الأمني إلى رافعة اقتصادية، بحيث تترجم جهود الاستقرار إلى شراكات استثمارية داخل التكتلات.

وأيضا يمثل الأزهر والكنيسة، والجامعات المصرية، والإعلام المصري، أدوات حيوية لتثبيت الدور المصري، فالتعليم مثلاً يجذب أكثر من 35 ألف طالب إفريقي سنوياً، وهو ما يشكل رأس مال بشري لصالح العلاقات الاستراتيجية.

والدبلوماسية المصرية تستخدم كأداة تفاوضية ايجابية، فالقاهرة ليست مجرد عضو في التكتلات، بل وسيطاً دبلوماسياً يلعب أدواراً معقدة في حل النزاعات داخلها،ففي إطار الكوميسا، ساهمت مصر في تيسير الحوار التجاري بين السودان وجنوب السودان بعد الانفصال، بما خفف من توترات التبادل الحدودي.
وفي إيكواس، دعمت مصر الجهود الإقليمية في مكافحة الإرهاب والتطرف العابر للحدود، وعرضت خبراتها التدريبية والأمنية.
في أزمة إثيوبيا وإريتريا، ورغم البعد الجغرافي النسبي، كانت مصر طرفاً في مبادرات دبلوماسية عبر الاتحاد الإفريقي لتثبيت وقف إطلاق النار.

ومن خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي، دفعت مصر نحو إنشاء آلية لمتابعة تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية، مستنده إلى خبرتها التفاوضية في ملفات معقدة مثل سد النهضة واتفاقيات الغاز مع أوروبا.

وبالتالي فإن هذه القدرة على الجمع بين الدبلوماسية السياسية والاقتصادية تمنح القاهرة موقعاً متميزاً كـ “جسر تفاوضي” داخل التكتلات، يوازن بين مصالح الأطراف المتنافسة، ويمنح مصر وزناً يتجاوز حدودها الجغرافية.

وفيما بين مصر، جنوب إفريقيا، إثيوبيا كنماذج لدول افريقية كبري مؤثرة، نجد أن الصادرات المصرية إلى دول الكوميسا تمثل حوالي 3.5 مليار دولار سنوياً. بالمقارنة، فإن إثيوبيا، رغم عضويتها بالكوميسا، لا تتجاوز صادراتها 1.2 مليار دولار، مما يؤكد التفوق المصري في حجم التجارة داخل التكتل.
أما جنوب إفريقيا، فإنها تضخ وحدها أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي للسادك (450 مليار دولار من إجمالي 750 مليار)، ما يجعلها القوة الاقتصادية المهيمنة في الجنوب وهذا يعكس ضرورة أن تستثمر مصر وزنها داخل الكوميسا لتلعب دوراً موازياً في الشرق والشمال.

وتظل مصر متوفقة بأنها تمتلك قدرات لوجستية وموانئ (مثل قناة السويس) تمكنها من قيادة التكامل اللوجستي إذا وظفتها بفاعلية.

وفيما يتعلق بمصر و اتفاقية التجارة الحرة الشاملة AfCFTA، نجد ان مصر كانت من أوائل الدول المصدقة على الاتفاقية، بينما تأخرت دول محورية مثل نيجيريا علي سبيل المثال في التوقيع، وهذه النقطة تمنح القاهرة أفضلية سياسية يمكن أن تتحول إلى ميزة اقتصادية إذا قادتها نحو التوافقات التجارية.

وبالنظر في الأمر نجد أن تحديات عدة أمام القاهرة يجب ان تتجاوزها سريعا لتحقيق الاهداف المرجوة، بداية من المنافسة الدولية، حيث أن قوى مثل الصين وتركيا والإمارات وإسرائيل باتت تنسج تحالفاتها عبر التكتلات الإفريقية، بما يضع ضغوطاً على الدور المصري.

وكذلك ضعف البنية التحتية القارية، حيث أن 40% من الدول الإفريقية غير متصلة بشبكات نقل إقليمية كافية، ما يعيق حركة التجارة.

إضافة إلي تحدي التجزئة المؤسسية، فبعض الدول الإفريقية تنتمي لأكثر من تكتل في وقت واحد، وهو ما يعقد التنسيق، ويؤثر على فعالية التكامل.

إن موقع مصر من التكتلات الإفريقية ليس موقع المتابع، بل القائد الذي يملك أدوات التأثير الجغرافي والبشري والاقتصادي والدبلوماسي. وإذا أحسنت القاهرة الاستثمار في ديناميات التغيير الحالية، فإنها ستثبت أنها ليست فقط جزءاً من معادلة التكامل الإفريقي، بل محركها الأساسي، فالتاريخ يعطينا الشرعية، والواقع يفرض التحدي، والدبلوماسية تمنحنا أوراق القوة، والمستقبل ينتظر رؤية مصرية متكاملة تعيد صياغة القارة نحو الوحدة الاقتصادية والسياسية.

 

إقرأ المزيد :

رامي زهدي يكتب : مصر وأوغندا ورواندا.. رسائل القاهرة المتجددة لحوض النيل بين الأمن والتنمية والتكامل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »