أخبار عاجلةالرأيسياحة وطيران

الدكتور حسين عبد البصير يكتب : المتحف المصري الكبير.. مصر تبني هرمًا جديدًا بالجيزة

بالقرب من أهرامات الجيزة الخالدة، يقف المتحف المصري الكبير كأنه هرم جديد تبنيه مصر الحديثة، لا من الحجارة كما فعل أجدادها، بل من الفكر والعلم والجمال. هناك، على مقربة من حيث بدأ التاريخ، تستعيد مصر روحها القديمة في ثوب من الحداثة، وتبعث من جديد فلسفة الأبدية التي شكّلت جوهر حضارتها منذ آلاف السنين. هذا الصرح العظيم ليس مجرد مشروع أثري أو إنجاز معماري مهيب، بل هو رسالة حضارية عميقة تؤكد أن مصر ما زالت تصنع التاريخ وتقدمه للعالم كما فعلت دائمًا، وأنها قادرة على الجمع بين عبقرية القدماء وعلوم العصر الحديث في عمل يليق بمجدها وخلودها.
المتحف المصري الكبير هو أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، حضارة مصر التي علّمت البشرية معنى الخلود. يمتد المتحف على مساحة تبلغ نصف مليون متر مربع، منها مائة ألف متر مخصصة للعرض المتحفي، ويضم أكثر من مائة ألف قطعة أثرية تروي سيرة الإنسان المصري منذ فجر التاريخ وحتى العصرين البطلمي والروماني. وقد اختير موقعه بدقة في أحضان الجيزة، ليطل على الأهرامات التي لا تزال شاهدة على عظمة المصري القديم. هناك، حيث تقف الأهرامات الثلاثة، يتكامل المشهد المعماري بين القديم والجديد، بين هرم بناه المصري القديم بيديه وهرم تبنيه مصر اليوم بعقلها وروحها.
صُمم المتحف على نحو يعكس فلسفة مصر في الخلود، فواجهاته المائلة وخطوطه المستوحاة من شكل الهرم تجعل منه امتدادًا طبيعيًا لأفق الجيزة المقدس. وتُعد الواجهة الزجاجية الكبرى واحدة من أروع إبداعات العمارة الحديثة، إذ تعكس أشعة الشمس على تمثال الملك رمسيس الثاني القابع في البهو العظيم، فيبدو كأنه ينهض من عمق الزمن ليستقبل زوار الألفية الثالثة بوجهه المهيب وابتسامته الأبدية التي تتحدى الفناء. إن هذا المشهد وحده كافٍ لأن يجعل الزائر يشعر أنه أمام امتداد حيّ للحضارة المصرية القديمة، التي لم تعرف الموت يومًا.
في داخل المتحف يعيش الزائر تجربة فريدة تحاكي رحلة المصري القديم نحو الأبدية. تتناغم الإضاءة والعروض التفاعلية والتقنيات الرقمية لتروي التاريخ بلغة الحواس، فيشعر الزائر أنه يعبر العصور ويتنفس هواء الفراعنة، يرى ما رأوه ويؤمن بما آمنوا به. قاعات العرض لا تكتفي بعرض الآثار، بل تقدم الحكاية الكاملة للحضارة المصرية، من بدايات الزراعة والكتابة والنقوش، إلى الطب والهندسة والفن والدين، وصولًا إلى الملوك الذين صنعوا المجد وخلّدوا أسماءهم في صخور الجبال ومعابد النيل.
ومن بين كنوز المتحف التي لا تُقدّر بثمن، تتألق المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، التي تُعرض لأول مرة كاملة منذ اكتشاف مقبرته عام 1922. أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية تحكي قصة الفتى الذهبي الذي صار رمزًا للخلود المصري وشبابه الدائم. إلى جواره تقف تماثيل ضخمة لرمسيس الثاني، ونصوص دينية وجنائزية من مصر القديمة، وقطع فنية من معابد طيبة وسقارة والدلتا، في عرض يجمع بين الدقة العلمية والإبهار الجمالي، ليعيد للحضارة المصرية مكانتها الأولى في قلب الوعي الإنساني.
لكن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان لعرض الآثار، بل مؤسسة ثقافية متكاملة تمثل عقل مصر الجديد وروحها المتجددة ,  ففيه معامل ترميم تُعد من الأكثر تقدمًا في الشرق الأوسط، ومراكز بحثية وتعليمية تستقبل العلماء والطلاب من أنحاء العالم، ومكتبة متخصصة تضم آلاف المراجع في علم المصريات، إلى جانب قاعات للمؤتمرات والعروض السينمائية والفعاليات الثقافية والفنية. إنه ليس متحفًا فقط، بل مدينة للمعرفة والابتكار والحوار بين الحضارات، تجسّد كيف يمكن للماضي أن يكون أساسًا صلبًا للمستقبل.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس حدثًا محليًا يخص مصر وحدها، بل حدث عالمي يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وتاريخه. إنه الهرم الرابع في الجيزة، لكنه هذه المرة هرم للفكر لا للحجر، وللإنسان لا للملك، وللروح لا للجسد. فبينما كانت الأهرامات القديمة تُخلّد الملوك، فإن هذا الهرم الجديد يُخلّد الإنسان المصري ذاته، بعقله وإيمانه وإبداعه الذي لا ينضب.
لقد بنت مصر عبر العصور أهرامات من الحجر، لكنها اليوم تبني هرمًا من الفكر والوعي والإبداع. هذا المتحف ليس مجرد بيت للآثار، بل بيت للخلود، وشهادة جديدة على أن طريق الأبدية الذي بدأه الفراعنة لا يزال ممتدًا. فالمتحف المصري الكبير هو أعظم هدية تقدمها مصر للعالم المعاصر، ودليل حيّ على أن روح مصر القديمة ما تزال تنبض في قلب مصر الحديثة، تُضيء دروب المستقبل كما أضاءت فجر التاريخ. إنها مصر، التي لا تموت، بل تتجدد، لتبقى دائمًا أمّ الحضارة ونبع الخلود.

 

 

إقرأ المزيد :

استعدادات مصرية مكثفة لافتتاح المتحف المصري الكبير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »