رامي زهدي يكتب : التكامل الاقتصادي الإفريقي.. بين إرادة القارة وتحديات المؤمرات الخارجية للسيطرة علي ثرواتها

في قلب القارة التي تذخر بكل معاني الثراء المادي والروحي والبشري، تعيش إفريقيا اليوم مرحلة دقيقة من تاريخها، فهي تقف على مفترق طرق بين حلم طال انتظاره بالتكامل الاقتصادي القاري والتنمية الحقيقية المستدامة، وواقع مضطرب يفرض نفسه عبر أزمات أمنية وصراعات داخلية وحروب ممتدة بين بعض دولها وبين بعض شعوبها داخل الدولة الواحدة وربما داخل المدينة الواحدة، وبين الإرادة السياسية القارية والضغوط الخارجية، يظل سؤال المستقبل الاقتصادي الإفريقي مرهوناً بمدى قدرة القارة على تجاوز معضلاتها الأمنية والسياسية، وتحويل التنوع الهائل في مواردها إلى منظومة متكاملة للإنتاج والنمو والاعتماد والتعاون المتبادل، فالقارة التي تضم أكثر من 1.4 مليار نسمة وتملك نحو 30% من ثروات العالم المعدنية و60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة، لا تزال تعاني من تبعثر الأسواق وضعف البنية التحتية، رغم امتلاكها ثاني أسرع معدلات نمو في العالم خلال العقد الماضي بمتوسط 4.1% سنوياََ وحتي تاريخ ماقبل جائحة كورونا.
منذ إعلان اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) عام 2018 ودخولها حيز التنفيذ في يناير 2021، وضعت القارة نفسها أمام مشروع هو الأكبر من نوعه في التاريخ الإفريقي الحديث، إذ يهدف إلى توحيد سوق يضم أكثر من 55 دولة بإجمالي ناتج محلي يتجاوز 3.4 تريليون دولار، ليشكل خامس أكبر تكتل اقتصادي عالمي، غير أن هذا الطموح اصطدم مبكراََ بجدران الواقع، فالتحديات التي تواجه هذا المشروع الطموح تتجاوز الاقتصاد إلى عمق البنية السياسية والأمنية في القارة، إذ يعيش نحو 17 بلدا إفريقيا حالات نزاع أو اضطراب أمني، وتنتشر الجماعات الإرهابية في مناطق الساحل والقرن الإفريقي وحوض بحيرة تشاد والكونغو، بينما تظل خطوط الإمداد والتجارة والمشروعات العابرة للحدود في خطر مستمر وكبير.
أفرزت الحروب والصراعات الداخلية نتائج كارثية على الاقتصادات الإفريقية، حيث تشير تقارير البنك الإفريقي للتنمية إلى أن الدول الإفريقية تفقد سنوياً أكثر من 7% من ناتجها المحلي الإجمالي بسبب النزاعات المسلحة والإرهاب، ففي السودان وحده، كلفت الحرب منذ أبريل 2023 الاقتصاد السوداني ما يزيد على 45 مليار دولار من الخسائر المباشرة وهذا فقط ما أمكن قياسه او تقديره وربما الحقيقية أسوء، هذا بينما أُجبر أكثر من 10 ملايين شخص سوداني على النزوح، وهو ما يعطل واحدة من أهم حلقات التكامل بين شرق القارة وشمالها. وفي إثيوبيا، التي تعد أحد أكبر اقتصادات شرق إفريقيا، أدى الصراع في تيجراي وما تلاه من توترات داخلية إلى تباطؤ النمو من 9% عام 2019 إلى أقل من 6% في 2024، وتراجع الاستثمارات الأجنبية بنسبة 20%. أما منطقة الساحل الإفريقي، التي تشكل أحد أكبر الممرات التجارية العابرة للقارة من السنغال غربا حتى السودان شرقا، فقد تحولت إلى مسرح مفتوح للجماعات المسلحة، مما عرقل حركة البضائع التي كانت تمثل نحو 15% من تجارة غرب إفريقيا الداخلية.
ومع ذلك، فإن الأمل لم يُغادر المشهد، فالمشروعات القارية الكبرى التي ترعاها مؤسسات الاتحاد الإفريقي لا تزال تمثل أعمدة الأمل لبناء جسور التكامل، مثلا مشروع الممرات الإفريقية للنقل، الذي يهدف إلى ربط الموانئ بالداخل الإفريقي عبر سكك حديدية وطرق سريعة عابرة للحدود، يمكن أن يرفع حجم التجارة البينية الإفريقية من 15% حالياً إلى نحو 40% بحلول 2035، وفق تقديرات بنك التنمية الإفريقي، كما أن مشروع الربط بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط بقيادة مصر يمثل نموذجا لتجسيد الإرادة القارية في خلق شريان تنموي يربط تسع دول إفريقية من قلب القارة إلى سواحل الشمال.
البيئة الأمنية والسياسية في إفريقيا لا تنفصل عن الاقتصاد، فكل حرب أهلية تلتهم ما كان يمكن أن يُستثمر في التعليم والبنية التحتية والصحة، وكل صراع حدودي يُفرغ موازنات التنمية لصالح الإنفاق العسكري،في وقت بلغت قيمة الإنفاق العسكري في إفريقيا عام 2024 نحو 43 مليار دولار، بزيادة 9% عن العام السابق، بينما تحتاج القارة إلى استثمار سنوي يقدر بـ 130 مليار دولار لسد فجوة البنية التحتية، وفق تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا، ومع استمرار التدهور الأمني في بعض المناطق، فإن تكلفة النقل عبر القارة تظل الأعلى عالميا، إذ يبلغ متوسطها ثلاثة أضعاف مثيله في آسيا، وهو ما يجعل المنتجات الإفريقية أقل قدرة على المنافسة داخل القارة نفسها.
ولا يمكن فصل معضلة التكامل الاقتصادي الإفريقي عن طبيعة النظام الدولي وتوازناته، فالتنافس الدولي على موارد إفريقيا، من الطاقة والمعادن إلى الممرات البحرية، يجعل من القارة ساحة صراع جيوسياسي تتداخل فيها المصالح الغربية والأمريكية، والصينية والروسية والتركية والعربية، ومع هذا التداخل، تصبح الأولوية الإفريقية هي الحفاظ على استقلال القرار التنموي، ووضع أجندة اقتصادية موحدة قادرة على توجيه هذا التنافس نحو التنمية بدلاً من الهيمنة، وفي هذا السياق، تلعب مصر دوراً متنامياً كقوة توازن وعقلانية داخل النظام الإفريقي، فهي تسعى عبر أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية والتنموية إلى دعم الاستقرار وبناء القدرات الإنتاجية المشتركة، إدراكًا منها أن الأمن القومي المصري مرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن الاقتصادي للقارة كلها.
إن مستقبل التكامل الاقتصادي الإفريقي لن يُحسم في غرف المؤتمرات وحدها، بل في مدى قدرة القارة على خلق بيئة اقتصادية آمنة وجاذبة للاستثمار. فالمستثمر لا يأتي إلى ساحة القتال، وإنما إلى السوق الآمن المستقر، ومن هنا، فإن أولويات المرحلة المقبلة يجب أن تتركز على ثلاثة مسارات متوازية، أولها تعزيز الأمن الإقليمي عبر آليات إفريقية خالصة مثل مجلس السلم والأمن الإفريقي، وثانيها تسريع تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة من خلال إزالة العوائق الجمركية وتبسيط القواعد اللوجستية، وثالثها بناء شبكة تكامل إنتاجي حقيقية تربط الصناعات والزراعة والطاقة بين الدول بدلاً من أن تظل متنافسة في أسواق محدودة.
ولعل ما يميز القارة الإفريقية هو وفرة رأس المال البشري، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 60% من سكانها دون سن 25 عامًا، ما يجعلها القارة الأكثر شباباً في العالم، وهذه الطاقة البشرية، إذا ما تم توظيفها في قطاعات الإنتاج والخدمات والتكنولوجيا، يمكن أن تحول إفريقيا إلى مركز نمو عالمي خلال العقدين القادمين، لكن ذلك مشروط بقدرة الحكومات على إصلاح التعليم، وبناء أنظمة تدريب مهني وتقني تواكب الثورة الصناعية الرابعة، وربط الجامعات ومراكز البحث بمشروعات التنمية الفعلية.
الحروب بالتأكيد قد تُبطئ حركة الاقتصاد لكنها لا تقتل الإرادة، والإرهاب قد يزرع الخوف لكنه لا يُطفئ طموح الشعوب، فإفريقيا التي خرجت من حقب الاستعمار والانقسام قادرة على أن تُعيد صياغة مصيرها بأدواتها، إذا ما توفرت الرؤية الموحدة والإرادة السياسية الراشدة، بل إن التكامل الاقتصادي الإفريقي ليس حلما وهمياََ، بل ضرورة وجودية في زمن تتكتل فيه القارات الكبرى لحماية مصالحها، ولا سبيل أمام إفريقيا إلا أن توحد قواها الإنتاجية والتجارية لتتحول من قارة تُستغل مواردها إلى قارة تصنع مستقبلها بيدها.
ويبقى الرهان الحقيقي على وعي القادة والنخب والمجتمعات الإفريقية بأن التنمية لا يمكن أن تُبنى على أطلال النزاعات، وأن الأمن الاقتصادي هو الضمانة الأعمق للاستقرار السياسي، فحين تتوحد الأسواق تُغلق أبواب الحرب، وحين تتشابك المصالح تنتصر التنمية على الانقسام. وبين حلم التكامل وواقع الصراعات، يقف المستقبل الإفريقي أمام اختبار التاريخ، اختبار الإرادة في أن تكون إفريقيا موحدة قوية فاعلة، لا مجرد ساحة تنافس الآخرين.
- رامي زُهدي – خبير الشؤون الإفريقية الإقتصادية والسياسية، نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات الإستراتيچية، ومساعد رئيس حزب الوعي .
إقرأ المزيد :
رامي زهدي يكتب : التكتلات الإفريقية.. أين تقف مصر من ديناميات التغيير؟




