أخبار عاجلةالرأي

يوسف العومي يكتب: بائعة الثوم

في الأقصر، ذلك المجتمع الصعيدي الذكوري في ملامحه، العادل في جوهره، لا تُقاس مكانة المرأة بضعفها، بل بقدرتها على الوقوف. هناك، حين تضيق الحياة، لا تتسوّل النساء ولا يمددن أيديهن، بل يشددن ظهورهن، ويخلعن ثوب الدعة إن لزم الأمر، ويرتدين ثوب الرجل بمعناه الأصيل: الصبر، والتحمّل، ومواجهة الأيام بعزة نفس وكرامة لا تُمس.

خرجت علينا اليوم واحدة من هؤلاء النسوة. لم تحمل لافتة، ولم ترفع صوتًا، ولم تحفظ خطابًا للشكوى. وجدت نفسها فجأة وجهًا لوجه أمام أعلى منصب في محافظتها، محافظ الأقصر. ربما كان في صدرها الكثير مما يُقال، وربما راودتها لحظة أن تطلب شيئًا يتجاوز أربع ربطات من الثوم، لكن العِرق الصعيدي غلب، والعُرف تقدّم، والكرامة قالت كلمتها الأخيرة.

لم تطلب بانكسار، ولم تذلّ نفسها بسؤال. لم تمد يدها، ولم تطلب صدقة أو عونًا. قالت ببساطة تشبهها:

«يا محافظ… أنا امرأة على قد حالي».

جملة قصيرة، لكنها محمّلة بحياة كاملة. ردّ المحافظ، وهو يسير بين الناس بلا تكلف: «وأنا كمان».

لم يكن ردًا بروتوكوليًا، ولا جملة محفوظة للاستهلاك الإعلامي، بل كان مدخلًا لمشهد إنساني خالص، خالٍ من الحواجز الأمنية، ومن الرسميات الثقيلة التي تعزل المسؤول عن الشارع.

قالت المرأة، وكأنها تحسم الأمر قبل أن يلتبس: «معي بيعة ثوم… تشتروها مني؟»

لم تطلب وظيفة، ولم تلمّح لمشروع، ولم تفتح باب الشكوى. عرضت عملها فقط. أربع ربطات، كل واحدة بخمسةٍ وعشرين جنيهًا. حساب بسيط، نظيف، لا مجال فيه للشفقة ولا للمجاملة.

توقّف المحافظ، سألها عن العدد والسعر، أخرج المال ووضعه في يدها، وطلب من أحد مرافقيه أن يأخذ الثوم. انتهى المشهد كما بدأ: ببساطة كاملة.

مضت المرأة في طريقها، لم تلتفت، ولم تنتظر شكرًا أو صورة. باعت بضاعتها، وحفظت كرامتها، وهذا في عرف الصعيد مكسب لا يقل عن المال.

خلفها، تباينت ردود الأفعال. من ضحك ظنًا أن الموقف طريف، ومن شكر المحافظ معتبرًا ما حدث لفتة إنسانية. لكن الحقيقة أن المشهد كان أكبر من ذلك كله.

بائعة الثوم لم تكن مجرد امرأة فقيرة، بل نموذج لامرأة صعيدية تعرف كيف تطلب دون أن تنكسر، وكيف تواجه دون أن تتجاوز. والمحافظ لم يكن مجرد مسؤول يؤدي دورًا، بل كان حاضرًا بين الناس، مندمجًا في تفاصيلهم، بلا حواجز ولا مواربة ولا مجاملة.

هكذا تُكتب اللحظات الصادقة: امرأة تبيع عرقها، ومسؤول ينزل إلى الشارع، ومشهد واحد يختصر معنى بسيطًا وعميقًا في آنٍ واحد:

أن السلطة حين تقترب من الناس، والناس حين يتمسكون بكرامتهم، تصبح أبسط الوقائع حكاية تستحق أن تُروى.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »