رامي زهدي يكتب : الاعتراف الإسرائيلي بإقليم صومالي لاند .. من لا يملك يعطي من لا يستحق
إسرائيل تلقي عود ثقاب مُشتعل علي القش الجاف بالقرن الإفريقي
” أعطى من لا يملك لمن لا يستحق “، إسرائيل تشعل حريقا مقصودا في خاصرة القرن الإفريقي بعد أن ألقت بعود ثقاب مُشتعل علي القش الجاف، هكذا الاعتراف الإسرائيلي بإقليم صومالي لاند،وهو ليس خطأ دبلوماسيا ولا زلة سياسية عابرة، بل فعل عدواني محسوب، يندرج ضمن استراتيجية واعية لتفكيك الدول من أطرافها الرخوة، وإعادة رسم خرائط النفوذ في واحد من أخطر أقاليم العالم حساسية وتشابكا.
نحن لسنا أمام رأي سياسي قابل للنقاش، بل أمام سابقة شديدة الخطورة، تُمنح فيها شرعية وهمية لكيان انفصالي خارج أي إطار قانوني دولي، في انتهاك صريح لمبادئ النظام الدولي، وازدراء فج لقرارات الأمم المتحدة، وتحد مباشر للاتحاد الإفريقي، ورسالة استخفاف بكل ما تبقى من فكرة الدولة الوطنية في إفريقيا.. هذا الاعتراف هو ترجمة عملية لمقولة فاسدة في جوهرها وهي “أعطى من لا يملك لمن لا يستحق”.
إسرائيل، التي لا تملك أي صفة تخولها منح الشرعية أو نزعها، قررت أن تلعب دور المهندس السياسي في إقليم هش، متصدع، يعاني من إرث طويل من الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية، وكأن القرن الإفريقي ساحة تجارب مفتوحة لمغامرات جيوسياسية لا تعبأ بدماء الشعوب ولا بمستقبل الدول.
القرن الإفريقي ليس رقعة هامشية في الجغرافيا السياسية، بل عقدة استراتيجية في قلب التوازنات الدولية.. هنا يلتقي البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وتمر عبر باب المندب واحدة من أخطر نقاط الاختناق في التجارة العالمية، حيث تعبر سنويا بضائع تتجاوز قيمتها تريليوني دولار.
أي عبث في هذا الإقليم ينعكس فورا على أسواق الطاقة، وسلاسل الإمداد، وأسعار الغذاء، واستقرار الدول المطلة على البحر الأحمر، وفي مقدمتها مصر، ومن يتصور أن تفكيك الصومال شأن داخلي صومالي، إما جاهل بطبيعة الإقليم أو متواطئ في إشعال الفوضى.
الاعتراف بصومالي لاند يعني ببساطة كسر أحد آخر الخطوط الحمراء التي حافظت على الحد الأدنى من تماسك القارة الإفريقية، وهو مبدأ احترام الحدود الموروثة، هذا المبدأ لم يكن شعارا نظريا، بل كان صمام أمان منع إفريقيا من التحول إلى فسيفساء دموية من الدويلات المتناحرة، كسره اليوم يفتح الباب أمام سيناريو كارثي، حيث تتحول كل أزمة داخلية إلى مشروع انفصال، وكل خلاف سياسي إلى ذريعة لتدويل الصراعات وتمزيق الدول من الداخل.
الأخطر أن هذا الاعتراف لا يأتي في فراغ، بل يتقاطع مع تحركات إقليمية مشبوهة، ومحاولات محمومة لإعادة ترتيب موازين القوة في شرق إفريقيا، وربط كيانات هشة بمحاور خارجية مقابل الحماية أو الدعم الاقتصادي أو الأمني، النتيجة المتوقعة ليست بناء دول، بل عسكرة الموانئ، وتحويل السواحل إلى منصات صراع، وتكريس منطق الميليشيات والكيانات غير المكتملة، على حساب الدولة المركزية ومؤسساتها.. اقتصاديا، فإن تفكيك الصومال يعني نسف أي فرصة حقيقية للتنمية المستدامة في واحد من أفقر بلدان العالم.
الصومال يحتاج إلى دولة موحدة قادرة على جذب استثمارات حقيقية في الزراعة، والموانئ، والخدمات اللوجستية، وليس إلى كيانات متنازعة تتنافس على بيع الجغرافيا مقابل اعترافات سياسية مؤقتة، والتجارب الإفريقية السابقة تؤكد أن الدول المنقسمة تفقد في المتوسط ما بين 2 إلى 3 % من نموها السنوي المحتمل، وتغرق في دوامة من الاعتماد على المساعدات، وتتحول إلى عبء أمني على محيطها الإقليمي.
من زاوية الأمن القومي المصري، فإن ما يجري لا يمكن فصله عن محاولات تطويق الدور المصري في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، وخلق نقاط ضغط غير مباشرة تمس المصالح الحيوية لمصر.
العبث بالصومال، كما العبث بالسودان أو إثيوبيا، ليس ملفا بعيدا عن القاهرة، بل جزء من معادلة أمن قومي مترابطة، تبدأ من منابع النيل ولا تنتهي عند مضائق الملاحة، وتجاهل هذه الحقيقة هو ترف لا تملكه الدولة المصرية ولا الأمة العربية.
الأكثر وقاحة في هذا المشهد هو محاولة تسويق الاعتراف باعتباره دعما للاستقرار أو اعترافا بواقع قائم، والواقع القائم في الصومال هو واقع هش فرضته الحرب والفوضى، وليس واقعا سياسيا شرعيا، تحويل الأمر الواقع إلى شرعية سياسية هو جوهر الفوضى الدولية، وهو المنطق ذاته الذي بررت به إسرائيل احتلالها، وتريد اليوم تصديره كنموذج إلى إفريقيا، في استخفاف فج بتجارب الشعوب ومعاناتها.
إن إشعال عود ثقاب في القش الجاف ليس فعلا طائشا، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان، لأن من يشعل يعلم تماما أن الحريق سيتمدد، وأن السيطرة عليه ستكون شبه مستحيلة، الاعتراف بصومالي لاند هو هذا العود المشتعل، الذي يهدد بتحويل القرن الإفريقي إلى ساحة حرائق متداخلة، تدفع ثمنها شعوب المنطقة، وتتحمل تبعاتها دول الجوار، بينما يقف مهندسو الفوضى على مسافة آمنة يراقبون النتائج.
المطلوب اليوم ليس بيانات قلق ولا دبلوماسية مجاملة، بل موقف حازم يعيد الاعتبار لفكرة الدولة، ويرفض منطق التفكيك، ويؤكد أن وحدة الدول ليست خيارا أخلاقيا فحسب، بل ضرورة استراتيجية للأمن والاستقرار.
والصمت على هذه السابقة يعني القبول بانهيار تدريجي للنظام الإقليمي الإفريقي والعربي، ويعني أن القادم سيكون أكثر فوضى، وأكثر دموية، وأقل قابلية للسيطرة.
إقرأ المزيد :
اعتراف إسرائيل بأرض الصومال يفجّر أزمة إقليمية .. سياسات نتنياهو تشعل بؤرة توتر جديدة في إفريقيا




