زهران جلال.. يكتب: إسنا..بين ركام المنازلٌ ونداء المآذن
في إسنا، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، وتتناثر الحكايات بين الدروب والبيوت، ينهض الحجر شاهداً على تاريخٍ عريق، ثم يترنح فجأةً كأنه يستنجد بالعيون والقلوب. هنا لا يسقط جدارٌ فحسب، بل تتساقط معه صفحاتٌ من ذاكرةٍ موغلة في القدم، وتخفت أصوات أجيالٍ تحت الركام، فيما الزمن يمضي كأنه لا يسمع النداء ولا يرى الخطر الداهم. إسنا اليوم ليست مجرد مدينةٍ على ضفاف النيل، بل لوحةٌ تتشقق في صمت، وجرس إنذارٍ يقرع في وجه الغفلة.
المشهد يتكرر في أكثر من موضع؛ منازلٌ تتهاوى في قرية “الدير،” بيتٌ ينهار في شارع البحر، آخر بجوار معبد إسنا، وجدرانٌ تتصدع في قرية ” طفنيس المطاعنة” ، حتى المسجد العتيق الذي ظل شاهداً على صلوات المصلين لعقودٍ طويلة، أصابته التشققات وشرخت مئذنته، وكأنها ترفع صوتها في وجه الإهمال وتستغيث من طول الإنتظار. الأهالي يتساءلون بقلقٍ متزن: هل السبب حشرة النمل الأبيض التي تنخر في الأساسات؟ أم مشروع الصرف الصحي الذي لم تُتخذ له الإحتياطات الكافية؟ أم غياب الرقابة والمتابعة من الجهات المعنية؟ أسئلة تتردد بلا جوابٍ حاسم، فيما الخطر يتسع يوماً بعد يوم .
ومع ذلك، يبقى مشروع “حياة كريمة” الذي أنطلق قبل خمس سنوات بارقة أملٍ معلقة، إذ وُضع ليكون مظلةً حامية للأسر الأكثر إحتياجاً، عبر لجان مختصة بحصر المنازل المتهالكة وفق معايير دقيقة، تشمل المنازل الطينية أو ذات الدور الواحد المهددة بالإنهيار، والتي تمثل المسكن الوحيد لهذه الأسر، غير أن هذا الملف لم ينل الإهتمام الكافي في ما يخص المباني المتهالكة، فبقيت الأوراق في الأدراج، وظلت الوعود معلقة، بينما الواقع يزداد قسوة يوماً بعد يوم.
المسؤولية اليوم ثقيلة، والمحافظ الذي غدا إسماً متداولاً على منصات التواصل الإجتماعي، وصوره تتصدر الصفحات الأولى، وحديث الناس يتردد عن حضوره وتفاعله الإنساني، مدعوٌّ لأن يوجّه بصره إلى جوهر القضايا والملفات المهمة لا إلى بريق العناوين العارضة، فملف المباني القديمة يحتاج إلى فتحٍ جاد، ورقابةٍ فنية دقيقة على أعمال شركات المياه والصرف الصحي، ولا سيما تلك الممولة من البنك الأفريقي، مع ضرورة إستبدال المواسير المتهالكة المصنوعة من “الأسبستوس” التي ما زالت تهدد الصحة العامة، فالمسألة لا تختزل في جدرانٍ تتشقق أو منازلٍ تتداعى، بل هي حياةٌ تتأرجح، وتراثٌ يتهادى، وذاكرةٌ مهددة الزوال .
إسنا وقراها اليوم تقف على مفترق طرق، إما أن تُستعاد كمدينةٍ تحمل ذاكرة الأجيال وتراثها العريق، وإما أن تُترك لتنهار تحت وطأة الإهمال، ليست القضية جداراً يتشقق أو بيتاً ينهار، بل حياةٌ تبحث عن مأوى، وقرى تستغيث أن تُصان، ومدينةٌ تنادي أن تُستعاد. ومسؤوليةً تستدعي قراراً واعياً، فلْيكن التحرك متزناً والقرار راسخاً قبل أن يتحول الصمت إلى عبء والإنتظار إلى خيبة.
إسنا لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى فعلٍ يليق بذاكرتها، ورعايةٍ تحفظ تراثها، وخطوةٍ جريئة تعيد إليها شموخها وكرامة أهلها، والواجب يقتضي أن تُفتح الملفات الجوهرية بجدية، وأن تُمارس رقابة واعية على مشروعات البنية التحتية.
مشاكل قري إسنا لا تحتاج إلى صخبٍ عابر،ولا شعاراً يُرفع، بل تحتاج إلى فعلٍ راسخ، وأماناً يُمنح، وذاكرةً تُحفظ، وكرامةً تُصان، وخطوةٍ جريئة تعيد إليها شموخها وطمأنينة أهلها.




