أخبار عاجلةالرأي

الكاتب النيجري عمر مختار الأنصاري يكتب : بين الفطرة والفتنة: درس من حادثة “إيبو نوح”

في عصر تتسارع فيه الأحداث، وتغشى وسائل التواصل عقول الناس بسرعة البرق، تطلع قصص تبدو كأنها من نسج الوهم، ولكنها تحمل في طياتها دروسًا بليغة في طبيعة الإيمان البشري والعقل الرشيد. 

من تلكم القصص حادثة الشاب الغاني “إيبو نوح”، الذي زعم في أغسطس سنة 2025 – موسم الأمطار الغزيرة في غانا – تلقي وحي إلهي ينذر بطوفان عالمي يبتدئ في الخامس والعشرين من ديسمبر، مقلدًا قصة النبي نوح عليه السلام.

ما ابتدأ محتوى إثاريًا على “تيك توك” تحول إلى ظاهرة فيروسية اجتذبت الآلاف، ثم انتهى إلى فشل مدوٍّ وجدل واسع. 

هذه الحادثة ليست خبرًا عابرًا، بل مرآة صافية تعكس توازنًا دقيقًا بين العقل والإيمان، وتذكيرًا بأن الفطرة الدينية في النفوس تحتاج إلى هداية صحيحة لئلا تنحرف إلى باطل.

من الوجهة المنطقية والعقلية، تتضح السردية جلية: 

إيبو نوح، الذي كان قبل ذلك صانع محتوى هزلي يبث سكيتشات فكاهية على المنصات الرقمية، أذاع مقطعًا في أغسطس 2025 يحذر من طوفان آتٍ، مستغلاً غزارة الأمطار الموسمية في غانا ليبدو الأمر صادقًا؛ حصد المقطع ملايين المشاهدات، ومع تفشي التريند وجد رواجًا عظيمًا.

ومن هنا تدخل عامل العامة المتعطشة للإثارة أو الخوف الديني، فصدق بعضهم الزعم، وباعوا أموالهم وسافروا إلى غانا رجاء النجاة في “سفنه” الخشبية. 

استغل إيبو الفرصة بحذق، ففتح باب التبرعات الاختيارية دون إجبار أو بيع تذاكر، فكسب حصانة قانونية من تهم النصب والغش؛ ألقت الشرطة الغانية القبض عليه مؤقتًا بتهمة إثارة الهلع، لكن أطلق سراحه سريعًا لعدم كفاية الدليل الجرمي المباشر. 

وبعد إخفاق النبوءة في الخامس والعشرين من ديسمبر – إذ لم يقع طوفان – أعلن “تأجيل” الكارثة بفضل صلواته، ثم برز في حفل موسيقي كبير يحيي الجمهور، وبسيارة مرسيدس فاخرة حديثة، فأثار اتهامات باستغلال التبرعات لنفسه؛ وعندئذٍ كشف عن منطقه الشيطاني أمام السلطات الغانية، مستغلاً حرية الرأي والتعبير، فقال ما مضمونه: ﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾، في تلاعب سافر يبرئ ذمته ويُلقي العتب على الضحايا.

وأما تخصصه في ادعاء “النوحية”، فهو نسخة مكررة حرفيًا من قصة نوح عليه السلام: صنع سفن خشبية، إنذار بطوفان، دعوة إلى النجاة معه. لكنه لم يأتِ بجديد، بل نقل النص القديم ليصنع محتوى فيروسيًا، يذكرنا بكيف تحول الإثارة الرقمية المزحة إلى ظاهرة تؤثر في أرواح الناس وأموالهم.

هنا يلوح الجانب الأعمق: التدين فطرة راسخة في النفوس البشرية، كما قال الله تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30). فإن لم يجد الإنسان الحق الذي يسقي هذه الفطرة، مال إلى الباطل، يلتمس المعنى في نبوءات كاذبة أو إثارة زائلة. والمنصدمون من حادثة إيبو نوح – ممن خسروا أموالهم أو أحسوا بالغش – قد يميلون إلى الإلحاد أو إنكار التدين من أصله، خاصة من ذاق مرارة مع ديانات منسوخة أو مشوهة، كما وقع لبعض الداعين إلى فصل الدين عن الدولة في الغرب أو العالم العربي، فقاسوا تجارب سلبية على الدين كله فأنكروه.

 لكن الشفاء ليس في الإلحاد، بل في الرجوع إلى الإيمان الصحيح: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أتم الرسالة ووفق بين الإيمان والعقل، بين الدين والحياة. الإسلام نسخة كاملة شاملة: شمول جغرافي وعرقي تجاوز حدود القبائل، وشمول فكري جمع بين العلم والإيمان، وبين الدين والدولة في نظام عدل يبني الحضارة ولا يهدمها.

وأخيرًا، تدعونا هذه الحادثة إلى الرحمة بضحاياها: أولئك الذين قدموا من ليبيريا وبنين وغانا، وباعوا كل ما يملكون رجاء النجاة، فوجدوا أنفسهم مخدوعين مهجورين. 

والحل الحقيقي لهم – ولكل طالب حق – في اتباع خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي حذر من الكذابين الدجالين. 

وههنا يأتي واجبنا كمسلمين: فلتمد المنظمات الإسلامية العالمية والخيرية يد العون، ولتبرز محاسن الإسلام المادية بالإغاثة والتنمية، والمعنوية بالدعوة إلى التوحيد الخالص والعقلانية الإيمانية.

فالإسلام ليس إثارة عابرة، بل نور يهدي إلى السكينة في الدنيا والفلاح في الآخرة.

وبهذا التوافق بين العقل الذي يبين الزيف، والإيمان الذي يروي الفطرة، نجتاز الفتن ونبني أمة قوية محصنة من الدجل الرقمي والنفسي.

 

اقرأ المزيد 

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب : القوة الناعمة المصرية في أفريقيا .. نهضة الحضور منذ عام 2014

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »