أخبار عاجلةالرأي

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب : من مياه النيل إلى ممرات التجارة.. لماذا يعد استقرار القرن الإفريقي ضرورة لمصر؟

منذ فجر التاريخ، مال الفكر الاستراتيجي المصري إلى اعتبار مناطق الجوار القريبة والبعيدة، ساحات حيوية لبناء علاقات تعاونية في أوقات القوة، أو مصادر تهديد يجب احتواؤها في لحظات الصدام, واليوم، تبرز منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل بوصفها “موقع القلب” في الرؤية المصرية، حيث ترتبط المصالح الحاكمة للدولة بتأمين مياه النيل، والحفاظ على أمن السودان، وحماية الملاحة في البحر الأحمر.
تعيش منطقة القرن الإفريقي اليوم تعقيدات غير مسبوقة؛ إذ تُصنف دولها كأكثر مناطق العالم عدم استقرار سياسي، وتعاني من أزمات اقتصادية وإنسانية مزمنة. وترجع هذه الأزمات بشكل أساسي إلى “الهشاشة السياسية” الناتجة عن ضعف المؤسسات والفساد والصراعات العرقية على الموارد.

هذه البيئة الهشة جعلت من الانقلابات العسكرية ظاهرة متكررة تعيق النمو الاقتصادي وتزيد من معدلات الفقر والنزوح؛ حيث تضم القارة حالياً نحو ثلث لاجئي العالم, وسط هذه السيولة الأمنية، يتصاعد “تكالب” القوى الدولية (مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين) والإقليمية للسيطرة على المنطقة نظراً لأهميتها الجيوساتراتيجية للتجارة العالمية.
لم تكن مصر بمنأى عن هذه العواصف، بل كانت الأكثر تأثراً في ملفات استراتيجية:
1. نزيف إيرادات قناة السويس: تسببت توترات جنوب البحر الأحمر وهجمات الحوثيين في فقدان مصر لنحو 60% من إيرادات القناة , ووفقاً لبيانات البنك المركزي، تراجعت العوائد لتصل إلى 6.6 مليارات دولار في العام المالي الماضي مقارنة بـ 8.8 مليارات في العام السابق له، نتيجة تحول السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
2. أزمة الجوار السوداني: يمثل السودان بوابة مصر للتجارة مع إفريقيا، وقد أدى الصراع المسلح هناك إلى تهديد استثمارات مصرية تبلغ 2.7 مليار دولار, كما تأثرت إمدادات السلع الأساسية، حيث تستورد مصر من السودان ما بين 10% إلى 13% من احتياجاتها من اللحوم الحية، ما يهدد بارتفاع أسعارها محلياً.
3. ضغوط اللاجئين والائتمان: تسبب تزايد أعداد اللاجئين في ضغوط مالية على قطاعي الصحة والتعليم, كما تزايدت المخاوف من خفض التصنيف الائتماني لمصر بسبب المخاطر الجيوسياسية المحيطة بها كدولة جوار لمنطقة صراعات.
شهدت المنطقة دخول لاعبين إقليميين ينافسون المصالح المصرية بشكل مباشر, فقد عززت تركيا وجودها العسكري عبر أكبر قواعدها الخارجية في مقديشو، وسعت لإقامة قاعدة بحرية في “سواكن” السودانية (قبل أن يتعطل المشروع), من جهة أخرى، يمثل الاعتراف الإسرائيلي بـ “صوماليلاند” (أرض الصومال) واعتزام إسرائيل بناء علاقات مع دول غير إسلامية بالمنطقة تحولاً خطيراً؛ فإسرائيل تولي البحر الأحمر أهمية قصوى لمرور 20% من تجارتها عبره، وهو ما قد يتقاطع أو يتناقض مع المصالح والأمن القومي المصري.
لمواجهة هذه التحديات، تبنت الدولة المصرية رؤية “الجمهورية الجديدة” لاستعادة النفوذ عبر مسارات متوازية:
* الدبلوماسية الرئاسية: تمثلت في زيارات تاريخية، أبرزها زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي عام 2025، وهي الأولى لرئيس مصري منذ استقلالها، بهدف إعادة تشكيل صورة مصر كقوة إفريقية فاعلة.
* أمن الممرات المائية: انضمت مصر رسمياً لمجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن لتأمين مضيق باب المندب، وهو الممر الحيوي المؤدي لقناة السويس.
* الأمن المائي: تظل قضية سد الإثيوبي “خطاً أحمر”، حيث تستخدم مصر كافة خياراتها السياسية والدبلوماسية للضغط من أجل اتفاق ملزم يحمي حقوقها المائية.
خلاصة القول، يمكن تشبيه منطقة القرن الإفريقي بـ “لوحة تحكم” معقدة؛ كل صراع أو تغيير في موازين القوى هناك يرسل إشارات فورية تؤثر على أمن مصر المائي، واستقرارها الاقتصادي، وسيادتها على ممراتها البحرية. لذا، فإن التحرك المصري الحالي يتجاوز مجرد رد الفعل، ليصل إلى إعادة رسم خريطة التفاعلات الاستراتيجية لحماية “ساحة مصر الخلفية” من أي اختراقات دولية أو إقليمية.

 

إقرأ المزيد :

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب : القوة الناعمة المصرية في أفريقيا .. نهضة الحضور منذ عام 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »