رامي زهدي يكتب : اعتراف يهدم ولا يبني .. كيف تكشف أرض الصومال الوجه الحقيقي لإسرائيل في إفريقيا ؟
"من الصداقة الزائفة إلى سياسة التفكيك، كيف تستخدم إسرائيل بوابة القرن الإفريقي لضرب استقرار الدول من الداخل

منذ خمسينات القرن الماضي، وإسرائيل تحاول باصرار تقديم نفسها في القارة الإفريقية باعتبارها صديقا ودودا، وشريكا تنمويا، وخبيرا زراعيا، وناصحا امينا لشعوب خرجت لتوها من حقبة الاستعمار، عبر خطاب مصقول بعناية، ولغة ناعمة، ومشروعات تبدو في ظاهرها تقنية وتنموية، لكنها في جوهرها كانت دائما ابعد ما تكون عن البراءة.
فإسرائيل لم تدخل إفريقيا يوما بمنطق الشراكة المتكافئة، بل بمنطق الاختراق، ولم تنظر للقارة كساحة تنمية، بل كساحة نفوذ وصراع ومساومة جيوسياسية، واليوم، مع اعلانها الاعتراف بما يسمى اقليم ارض الصومال وهو في الحقيقة اقليم شمال غرب دولة الصومال وجزء من اراضيها من الاستقلال عام 1960، الأن يسقط القناع تماما، ويظهر الوجه الحقيقي لدولة لم تتردد يوما في تفكيك الدول، ودعم الحركات الانفصالية، وتغذية الهشاشة السياسية، متى رأت في ذلك خدمة لمصالحها الاستراتيجية الضيقة.
الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من العمل الاستخباراتي المنظم داخل القارة، فوفق تقديرات غير رسمية، فإن إسرائيل أقامت منذ الستينات علاقات أمنية واستخباراتية مع ما لا يقل عن ثلاثين دولة إفريقية، بعضها كان يتم دون إعلان رسمي، وبعضها الآخر تحت غطاء التعاون الزراعي أو الأمني التدريب الشرطي، وفي حالات عديدة، ارتبط هذا الوجود بدعم أطراف داخلية على حساب الدولة الوطنية، سواء في جنوب السودان قبل الانفصال، أو في إثيوبيا خلال فترات الاضطراب العرقي، أو في مناطق الساحل الإفريقي حيث تشابكت ملفات الإرهاب والإنفصال والتدخلات الخارجية.
والنتيجة كانت دائما واحدة، دول أضعف، ومجتمعات أكثر انقساما، وبيئة إقليمية قابلة للاشتعال.
في حالة القرن الإفريقي، يصبح المشهد أكثر خطورة، فنحن نتحدث عن إقليم يعد من أكثر أقاليم العالم هشاشة، يضم الصومال، إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي، والسودان وجنوب السودان في محيطه القريب، ويعاني من مزيج قاتل من النزاعات الداخلية، وضعف الدولة، وانتشار الجماعات المسلحة، والفقر، وتغير المناخ. الصومال وحده، وفقا لتقارير البنك الدولي، يعاني من تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي إلى أقل من 500 دولار سنويا، ويواجه أكثر من 6 ملايين شخص فيه انعداما حادا في الأمن الغذائي، وفي هذا السياق المتهالك، يأتي الاعتراف الإسرائيلي بإقليم انفصالي كإشعال عود ثقاب في مخزن بارود.
إسرائيل تدرك تماما أن الاعتراف بأرض الصومال ليس مجرد موقف سياسي رمزي، بل رسالة استراتيجية متعددة الاتجاهات. الرسالة الاولى موجهة إلى الداخل الصومالي، ومفادها أن خيار الانفصال يمكن أن يحظى بدعم دولي، ولو جزئيا، وهو ما يشجع قوى أخرى كامنة على التفكير في المسار ذاته، الرسالة الثانية موجهة إلى دول الجوار، وعلى رأسها إثيوبيا، التي تبحث منذ سنوات عن منفذ بحري، وتجد في أرض الصومال بوابة محتملة، بما يعيد خلط الاوراق في منطقة شديدة الحساسية، أما الرسالة الثالثة، فهي موجهة إلى القوى الاقليمية الكبرى، وفي مقدمتها مصر، بأن اسرائيل حاضرة بقوة في معادلة البحر الأحمر وباب المندب، ومستعدة لاستخدام ورقة التفكيك والاعترافات الانتقائية كأداة ضغط ونفوذ.
الأخطر من ذلك أن هذا الاعتراف يعيد إحياء نموذج شديد الخطورة في إفريقيا، وهو نموذج شرعنة الأمر الواقع بالقوة، ومنح الكيانات غير المعترف بها دوليا غطاء سياسيا خارج إطار الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، هذا النموذج، إذا ما تم تعميمه، يهدد ما تبقى من مفهوم الدولة الوطنية في القارة، ويفتح الباب أمام سلسلة لا تنتهي من المطالب الانفصالية.
وتشير تقديرات إفريقية إلى وجود أكثر من عشرين حركة انفصالية كامنة او معلنة في القارة، من الكاميرون إلى مالي، ومن نيجيريا إلى موزمبيق، الاعتراف بأحدها، ولو بشكل جزئي، يشكل سابقة بالغة الخطورة.
إسرائيل، التي تقدم نفسها كدولة صغيرة مهددة تسعى للأمن، تمارس في إفريقيا عكس ما تدعيه لنفسها، فهي لا تدعم استقرار الدول، بل تستثمر في هشاشتها، ولا تعزز سيادة القانون، بل تتعامل ببراغماتية مفرطة مع الأمر الواقع، لا تحترم وحدة الأراضي، بل تساوم عليها مقابل قواعد، أو نفوذ استخباراتي، أو موطئ قدم على ممرات بحرية استراتيجية.
وليس من قبيل الصدفة أن يتزامن هذا الاعتراف مع تصاعد التوتر في البحر الأحمر، ومع ازدياد أهمية باب المندب الذي يمر عبره ما يقرب من 12 في المئة من التجارة العالمية، ومع سعي قوى دولية وإقليمية لإعادة رسم خرائط النفوذ في هذه المنطقة الحيوية.
من منظور أفريقي ومصري على وجه الخصوص، فإن ما يحدث في أرض الصومال ليس شأنا محليا، بل مسألة أمن قومي إقليمي، تفكيك الصومال يعني مزيدا من الفوضى على الضفة الجنوبية للبحر الأحمر، ومزيدا من التهديد للملاحة الدولية، ومزيدا من الفراغ الذي تملؤه قوى خارجية لا ترى في إفريقيا سوى ساحة صراع. وهو ما يفرض على الدول الإفريقية، والاتحاد الأفريقي تحديدا، موقفا حاسما يرفض الاعترافات الأحادية، ويعيد التأكيد على مبادئ احترام الحدود الموروثة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ودعم الدولة الوطنية لا تقويضها.
الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس حدثا عابرا، بل مؤشر خطير على مرحلة جديدة من التعاطي مع القارة، مرحلة أكثر صراحة في استخدام أدوات التفكيك، وأقل اكتراثا بالشعارات القديمة عن الصداقة والتنمية، وهو ما يستدعي وعيا إفريقيا جماعيا، يدرك أن من يقدم نفسه كصديق قد يكون في الحقيقة عدوا استراتيجيا، يعمل بصبر ودهاء على إضعاف الدول من الداخل، لا على تمكينها، فالقارة التي دفعت ثمنا باهظا للتجزئة والانقسام، لا تحتمل مغامرات جديدة، ولا اعترافات مسمومة، ولا معاول هدم تضاف إلى بناء هش يكاد ينهار.
إقرأ المزيد :
رامي زهدي يكتب : الاعتراف الإسرائيلي بإقليم صومالي لاند .. من لا يملك يعطي من لا يستحق




