اخبار افريقياأخبار عاجلةالرأيالسودان

رامي زهدي يكتب : تقسيم السودان والخط الأحمر المصري الجديد

منذ أن اشتعل فتيل الأزمة السودانية قبل ما يزيد على تسعمائة يوم، يعيش السودان واحدة من أكثر الحروب الداخلية قسوة وتعقيدا في تاريخه الحديث، وربما في التاريخ الإفريقي كله، فبعد أكثر من ستمائة يوم تحديدا من الحصار والمعارك الطاحنة في الفاشر، تترسخ قناعة لدى المراقبين بأن هذه الحرب لم تعد مجرد صراع داخلي بين طرفين، بل تحولت إلى ساحة اختبار لإرادات دولية وإقليمية، بعضها يسعى لإعادة رسم الخرائط بالدم والدمار، وبعضها الآخر يقاتل بصمت كي تبقى الدولة السودانية موحدة وفاعلة، وفي القلب من هذا المشهد، تقف مصر، بثقلها السياسي والجغرافي والتاريخي، بوضوح مفاده أن تقسيم السودان خط أحمر مصري جديد لا يمكن تجاوزه.

لقد تجاوزت الأزمة كل حدود المعاناة الإنسانية الممكنة؛ أكثر من 11 مليون نازح وفق تقديرات الأمم المتحدة، ونحو 25 مليون إنسان باتوا في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية، فيما يواجه أكثر من 7 ملايين خطر المجاعة، وانهارت البنية الصحية في معظم المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات أو المحاصرة، وارتفعت معدلات النزوح اليومي إلى نحو 20 ألف شخص في بعض الفترات، ومع ذلك، ورغم هذا الواقع الكارثي، فإن النصر في طريقه، لأن السودان برغم الجراح لا يزال يقاتل كدولة، لا كأطراف متناثرة، ويثبت أن مشروع تفكيكه إلى دويلات قبلية أو عرقية أو مناطقية لن يمر.

لقد أثبتت التجربة أن الدولة المصرية حين تضع خطوطها الحمراء، فإنها لا تفعل ذلك لغايات شعاراتية أو لأغراض خطابية، بل لتجنّب انهيارات استراتيجية قد تهدد المنطقة بأكملها، فحين أعلنت القاهرة في صيف 2020 أن مدينة سرت في ليبيا تمثل خطا أحمر وكانت المرة الأولي لتقديم هذا المصطلح المصري للعالم، فهم الجميع وقتها أن الأمر جدي، وتوقف اندفاع الميليشيات عند ذلك الحد، ثم جاء الخط الأحمر الثاني ليحمي شريان الوجود ذاته، حين أعلنت مصر أن المساس بحصتها من مياه النيل هو تجاوز للخطوط المحرمة وتهديد مباشر للأمن القومي، وأعقب ذلك مواقف حازمة أعادت التوازن حتي الآن ولحين إشعار آخر في ملف سد النهضة رغم التعقيدات , ونفس الأحمر فيما يتعلق بأمن البحر الأحمر المنطقة والممر ذاته، وبعدها، أعلن الخط الأحمر الثالث وجه أي محاولة لفرض واقع تهجير الفلسطينيين نحو سيناء، ليغلق الباب نهائيا أمام مخطط خطير كان يمكن أن يغير وجه الجغرافيا السياسية للمنطقة، واليوم، يأتي الخط الأحمر الرابع: لا لتقسيم السودان، لا لانفصال أي جزء منه، لا لتكرار سيناريوهات الخرائط الممزقة في ليبيا أو الصومال أو جنوب السودان.

من يقرأ المشهد السوداني بدقة يدرك أن تقسيمه لم يعد مجرد فكرة هامشية، بل مشروع تغذيه بعض القوى الإقليمية والدولية لأسباب متعددة، بعضها يسعى للسيطرة على الممرات التجارية والموانئ، وبعضها الآخر يريد كسر العمق الاستراتيجي المصري في الجنوب وتحويل وادي النيل إلى ساحة نفوذ جديدة، بينما تتفق كل قوي الشر علي ذات الأطماع في ثروات السودان ومقدرات الأمة والشعب السوداني.

إن دارفور تحديدا ليست مجرد ساحة قتال، بل بوابة نحو قلب القارة، والرهان عليها اليوم هو رهان على جغرافيا الموارد، لا على السياسة وحدها، فالإقليم الذي يمتد على أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع ويضم ثروات معدنية وزراعية هائلة، صار هدفا مغريا لكل من يريد موطئ قدم في السودان الجديد إن نجح مخطط التقسيم.

لكن مصر، التي تقرأ الخريطة بعين الخبير وبعقل الدولة الراسخة، تدرك أن تقسيم السودان ليس فقط خسارة للسودان، بل بداية انهيار متسلسل في شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، وصولًا إلى تهديد الأمن القومي المصري من الجنوب، فكل تجزئة جديدة تفتح الباب لفراغ أمني تتسلل منه الميليشيات، وتضعف القدرة الإقليمية على ضبط الحدود، وتخلق موجات هجرة غير شرعية لا يمكن السيطرة عليها، الأهم أن تقسيم السودان يعني عمليا تحويل حوض النيل إلى لوحة متداخلة من الكيانات الصغيرة المتناحرة، ما يهدد استقرار منظومة المياه والطرق التجارية بين الشمال والجنوب.

من هنا، فإن الموقف المصري لا يستند فقط إلى اعتبارات التضامن العربي أو الإفريقي، بل إلى رؤية استراتيجية شاملة، فمصر بحكم التاريخ والموقع تدرك أن أمنها يبدأ من الجنوب، وأن استقرار السودان هو جزء لا يتجزأ من استقرارها الداخلي، وتمتلك مصر القدر الكبير من الأدوات الفاعلة لحماية السودان، وحماية نفسها وأمنها.

إن الأمن القومي المصري اليوم لا يُعرف بالحدود السياسية فحسب، بل بالجغرافيا المتصلة التي تربط القاهرة بالخرطوم عبر النيل والصحراء والبحر الأحمر، ولهذا، فكل حديث عن “انفصال الغرب” أو “إقامة كيان دارفوري” أو “دولة النيل الأزرق” ليس سوى خطوة في اتجاه زعزعة هذا الترابط الطبيعي الذي شكل لقرون العمق الجنوبي للأمة المصرية.

لقد كان دعم مصر للحفاظ علي مؤسسات الدولة السودانية وعلي رأسها المؤسسة العسكرية منذ اليوم الأول للحرب خيارا محسوبا بدقة، ليس من منطلق التدخل في الشأن الداخلي، بل لحماية فكرة بقاء الدولة ذاتها، فالجيش السوداني هو الضمانة الوحيدة لبقاء السودان ككيان موحد، في مواجهة ميليشيات مدعومة خارجيا تتلقى السلاح والتمويل وتُستخدم كأداة لتفكيك الدولة وإعادة تركيبها بما يخدم مصالح محددة، وقد أظهرت التقارير الدولية أن الميليشيات تسيطر على ما يقارب 60% من صادرات الذهب السوداني، وأنها تستخدم تلك الموارد لشراء السلاح وتمويل عملياتها، في وقت يعيش فيه ملايين السودانيين تحت خط الفقر.

على الرغم من طول أمد المعركة، فإن المؤشرات الميدانية الأخيرة تُظهر تغيرا في موازين القوى، فالجيش السوداني أعاد انتشاره في الشمال والشرق، واستعاد السيطرة على عدد من المراكز الاستراتيجية في دارفور وكردفان، وبدأت الأصوات الدولية بما فيها الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي تتحدث مجددا عن ضرورة “حماية وحدة السودان”. هذا التحول ليس صدفة، بل نتيجة صمود الدولة السودانية وإصرارها على الحفاظ على وحدتها، بدعم من دول شقيقة، في مقدمتها مصر التي لم ولن تتخلي يوما عن الدعوة للحل السياسي الذي يحفظ مؤسسات الدولة ودعم امن واستقرار وسيادة السودان.

إن مصر، وهي ترفع راية الرفض لتقسيم السودان، لا تدافع عن السودان فقط، بل تدافع عن منطق الدولة الوطنية في إفريقيا، وتعيد تذكير الجميع بأن استقرار القارة لن يتحقق عبر تقسيمها إلى كيانات أضعف، فالقاهرة ترى أن اللحظة الراهنة تستدعي استنهاض الإرادة الإفريقية لمواجهة مشاريع إعادة الاستعمار في صورته الجديدة: التقسيم الناعم، والانفصال المتدرج، والتفتيت عبر أدوات داخلية مدفوعة من الخارج.

وفي نهاية المطاف، قد تكون الحرب السودانية قد استمرت أكثر من تسعمائة يوم، لكن عمر الخرائط لا يُقاس بعدد الأيام، فالسودان الذي صمد أمام محاولات الكسر، سيخرج من محنته أكثر تماسكا، لأن إرادة الشعوب لا تُهزم مهما طال الليل. ومع كل خطوة يحققها الجيش السوداني نحو استعادة الدولة، تقترب لحظة النصر التي ستعلن للعالم أن من أراد تقسيم السودان قد خسر رهانه، وأن من أراد تهديد أمن مصر قد أساء التقدير.

الخط الأحمر الرابع قد رُسم، ليس بالحبر ولا بالتصريحات، بل بإرادة دولة تعرف وزنها وتدرك مسؤوليتها تجاه أمنها القومي ومحيطها العربي والإفريقي. فالسودان بالنسبة لمصر ليس جارا فقط، بل شريان حياة، وامتداد هوية، ومصدر استقرار، ومن يمس هذا الثابت، إنما يقترب من منطقة لا مجال فيها للتجريب ولا للمغامرة.

  • رامي زُهدي – خبير الشؤون الإفريقية .

إقرأ المزيد :

رامي زهدي يكتب : مصر وأوغندا ورواندا.. رسائل القاهرة المتجددة لحوض النيل بين الأمن والتنمية والتكامل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »