يوسف العومي يكتب: “الهائمون على وجوههم: بين الجنون المقدّس والاضطراب النفسي”
"من السيد البدوي إلى السادهُو والقديسة مريم: ظاهرة إنسانية تتكرر عبر الأديان والحضارات"

منذ فجر التاريخ، ظل هناك بشرٌ يتركون بيوتهم وأموالهم ويهيمون على وجوههم في البراري والمدن، بلا مأوى ولا هدف دنيوي واضح- البعض يراهم مجانين أو مشردين بلا وعي، بينما يراهم آخرون قديسين وأولياء بلغوا ذروة الفناء في الله أو الحقيقة المطلقة – هذه الظاهرة، التي تتكرر في كل الأديان السماوية والوضعية، تكشف عن جانب عميق في النفس البشرية: الرغبة في التحرر من قيد المجتمع والانغماس في المطلق.
العلم بدوره بحث في الظاهرة ووضع لها تفسيرًا بين المرض والبحث عن الذات، فعلم النفس الحديث قدّم تفسيرات متعددة لحال هؤلاء-فقال: إن بعضهم يعاني من اضطرابات عقلية مثل الفصام أو الهوس، تجعلهم ينفصلون عن الواقع المألوف ويدخلون في عوالم داخلية معقدة- وهناك من يختار الهيمان كردّ فعل على صدمات نفسية أو ضغوط حياتية، حيث يصبح التيه وسيلة للهروب من قسوة المجتمع.
لكن ليس كل هائم بالضرورة مريضًا، بعض الباحثين يعتبرون هذه الحالات خيارات فلسفية وجودية، إذ يرفض الإنسان حياة الاستهلاك والروتين ويفضل الانطلاق في رحلة مفتوحة نحو معنى أعمق للحياة.
في التراث الإسلامي، نجد ما يُعرف بـالمجاذيب، أي من “جذبهم” الله إليه حتى غابوا عن دنيا الناس، يُنظر إليهم باعتبارهم أولياء مستورين، رغم أن سلوكهم يبدو غريبًا أو غير مألوف، أمثلة هؤلاء: إبراهيم بن أدهم، الأمير البلخي الذي ترك ملكه وساح في الأرض زاهدًا، يُعد نموذجًا للهائم في سبيل الصفاء الروحي، وكذلك “الحلاج” الذي قال عبارته الشهيرة “أنا الحق”، مثّل صورة الصوفي الذي فنى في المحبة الإلهية حتى عُدّ مجنونًا في أعين العامة.
وفي مصر، يبرز مثال السيد أحمد البدوي (ت 675هـ)، القادم من المغرب إلى طنطا متخفيًا، حيث عاش سنوات طويلة في عزلة وذكر دائم، حتى أصبح “شيخ العرب” ومؤسس الطريقة الأحمدية. ارتبطت سيرته بالهيمان والتيه الروحي، ولا يزال مئات الآلاف يحتفلون بمولده في طنطا حتى اليوم، ما يعكس كيف تحوّل “الهائم” إلى رمز ديني واجتماعي بالغ التأثير.
في المسيحية: “المجانين لأجل المسيح” عرفت المسيحية الشرقية ايضًا ظاهرة قريبة جدًا مما ورد في الإسلام، فقد ظهر ما يسمى بـاليوروذيف أو “المجانين لأجل المسيح” في روسيا واليونان، كانوا يتعمدون التصرف كالهائمين أو الحمقى، ليكسروا كبرياء المجتمع ويجسدوا التواضع المطلق، ومن أمثلة لهولاء “سمعان العمودي” قضى 37 عامًا فوق عمود في الصحراء السورية، رمزًا للتجرد والزهد، وكذلك “القديسة مريم المصرية” التي عاشت 47 عامًا هائمة في الصحراء تكفّر عن خطاياها، وأصبحت أيقونة للتوبة والانسلاخ عن الدنيا.
وفي اليهودية: يعكس التراث العبري بدوره ارتباط الهيمان بالنبوة، بني إسرائيل أنفسهم عاشوا أربعين عامًا من التيه في صحراء سيناء، كما أن بعض الأنبياء اتُّهموا بالجنون لأنهم انفصلوا عن الواقع المألوف، فالنبي “حزقيال” قام بأفعال رمزية مثل النوم على جنبه أيامًا طويلة، ما جعل معاصريه يرونه غريب الأطوار، وفي سفر “هوشع”، نقرأ عن اتهام النبي بالجنون لأنه يتحدث بكلام الله، في مفارقة تكشف التوتر بين الواقع والرسالة.
حتي في الديانات الشرقية كالهندوسية والبوذية، يُعتبر الهيمان ممارسة مقبولة اجتماعيًا بل ومقدّسة كطريق للخلاص، ففي الهندوسية، يعيش السادهو حياة تجرد كامل، يتركون ممتلكاتهم ويجوبون الجبال والأنهار بأجساد مصبوغة بالرماد، بحثًا عن التحرر الروحي.
وفي البوذية، يسير الرهبان المتجولون بلا مأوى، مكتفين بالتأمل والصدقات اليومية، معتبرين الهيمان وسيلة للتحرر من التعلق المادي، رغم التطور العلمي وتغير المجتمعات، لا تزال الظاهرة قائمة، في الهند، يواصل آلاف “السادهو” حياتهم المتجردة، في روسيا، تُكرّم الكنيسة الأرثوذكسية ذكرى “المجانين لأجل المسيح” وفي مصر، ما زالت الموالد الصوفية – وأشهرها مولد السيد البدوي – تجمع مئات الآلاف من المريدين الذين يرون في سيرة “الشيخ الهائم” مصدر إلهام.
إذن نحن أمام ظاهرة معقدة لا يمكن تفسيرها بزاوية واحدة، العلم يراها اضطرابًا نفسيًا أو هروبًا من المجتمع، أما الدين يراها مقامًا روحانيًا واصطفاءً إلهيًا، والتصوف في كل الاديان يراها فناءً في المحبة الإلهية وتحررًا من قيود النفس، فالهائم على وجهه قد يكون مريضًا، وقد يكون وليًا، وقد يكون فيلسوفًا وجوديًا يرفض قيود المجتمع، لكن في كل الأحوال، تظل الظاهرة مرآة لبحث الإنسان الدائم عن المطلق، ومحاولة عبور حدود الواقع نحو عالم يتجاوز المادة والزمن.
اقرا المزيد:-
يوسف العومي يكتب: صراع بين الموت والخلافة في الكاميرون
يوسف العومي يكتب: مستقبل السياحة المصرية في ” المواجهة”