يوسف العومي – يكتب: معابد مصر التي سُرقت

لم تخرج الدول التي ساهمت في مشروع إنقاذ آثار مصر أثناء بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي خالية الوفاض، بل حصلت على مكافآت أثرية مذهلة مقابل ما دفعته من “ملاليم” مقارنة بما جَنَته لاحقاً من مجد ثقافي واقتصادي، كانت تلك جوائز لا تقدّر بثمن: معابد فرعونية ونوبية كاملة انتقلت من ضفاف النيل إلى قلب عواصم ومدن أوروبية وأمريكية، لتصبح جزءاً من هويتها المعمارية والسياحية حتى اليوم.
ففي إطار الحملة الدولية التي نظمتها اليونسكو لإنقاذ كنوز النوبة المهددة بالغرق بعد بناء السد العالي، حصلت بعض الدول على هدايا نادرة، فإسبانيا حصلت علي معبد كامل هو معبد ديبود الذي فككته ونقلته ويقف الآن شامخاً في قلب مدريد، أمريكا أيضا التي وقفت ضد تمويل السد وضد التنمية في مصر حصلت علي هدية أيضا وهي معبد دندور، الذي يحتل الآن موقعاً مميزاً داخل متحف المتروبوليتان في نيويورك، وإيطاليا التي لديها مئات الآلاف من القطع الاثرية المصرية دخلت الصفقة أيضا وحصلت علي معبد إليسيا، الذي استقر في مدينة تورينو، حتي هولندا كان لها نصيب في قالب” الجبنة” لكن ليست جبنه هولندي بل مصرية فقد حصلت علي معبد كامل هو معبد تافا، الذي نقل إلى مدينة لايدن.
هذه المعابد الأربعة خرجت من مصر لتصبح بمثابة “سفراء أثرية” في الخارج لكن هذا القول قول مضلل، لأن في واقع الأمر هي جزء من تراث وطني كان يفترض أن يظل على أرضه، ويُعرض للعالم من داخل مصر، لا من داخل متاحف وحدائق أجنبية.
فقصة معبد ديبود وحدها تكفي للدلالة على ضخامة ما جرى، فقد جرى تفكيكه حجراً حجراً، ووُضع في 1350 صندوقاً، نُقلت عبر النيل والمتوسط إلى ميناء فالنسيا، ومنها إلى مدريد على متن 90 شاحنة ضخمة، ومنذ ذلك الحين، صار المعبد قطعة مصرية أصيلة في قلب إسبانيا، يزوره ملايين السياح سنوياً، ويضيف لمكانة مدريد الثقافية بريقاً خاصاً، الأمر ذاته ينطبق على معبد دندور في نيويورك، حيث تحولت قاعته الزجاجية في المتروبوليتان إلى أيقونة سياحية، تدر دخلاً هائلاً يفوق أضعاف ما دفعته الولايات المتحدة أصلاً في الحملة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، تتصاعد تساؤلات مشروعة: ما مصير هذه الكنوز الأثرية؟ هل ستبقى للأبد في تلك البلدان البعيدة عن أرضها الأصلية؟ هل استمتاع تلك الدول بها لعقود، وجنيها أرباحاً هائلة من ورائها، لم يعد كافياً لتعيدها إلى مصر؟ هل يحق لمصر أن تطالب، على الأقل، بنسبة من عوائد التذاكر والمعارض التي تعرض هذه القطع الأثرية، استناداً إلى قوانين الملكية الفكرية والتراث العالمي؟ والأهم: ألا يجدر بالمثقفين والباحثين المصريين أن يتبنوا هذه القضية، ليعيدوا فتح الملف دولياً ويضعوا العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية؟
إن معابد مثل ديبود ودندور وإليسيا وتافا، رغم جمالها وهيبتها في عواصم العالم، تظل في النهاية أجزاء من هوية مصر الحضارية، وما لم تتحرك أصوات مصرية قوية للمطالبة بحقوق عادلة فيها، فإن التاريخ سيظل يكرر نفسه: آثار تُنقل، وكنوز تُهجر، بينما أصحابها الحقيقيون يكتفون بمشاهدة صورها من بعيد.
اقرا المزيد:- يوسف العومي يكتب: “الهائمون على وجوههم: بين الجنون المقدّس والاضطراب النفسي”
يوسف العومي يكتب: مستقبل السياحة المصرية في ” المواجهة”
يوسف العومي يكتب: صراع بين الموت والخلافة في الكاميرون