الرأي

من تعطيلِ الجهازِ بطمعِ المعرفةِ… إلى تعزيزِ الرؤيةِ في نقاشِ الأمة

ذكَّرني موضوعُ هذه الورشة الجليلة، وعنوانُها الدقيق «آراء الخبراء حول معايير تقييم الحالة الإعلامية والفكرية للخطاب الإرهابي والمتعاطفين معه في إقليم الساحل الإفريقي»، بطرفةٍ مستظرفة وقعت بيني وبين أخي عبد الله – حفظه الله وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة – في أواخر عام ألفين وأربعة أو فجر عام ألفين وخمسة،

حين كنا نؤمُّ مقاهي الإنترنت في نيامي، عاصمة النيجر، كثيراً.كانت تلك المقاهي على بساطتها الإفريقية الدافئة، تطل على شوارع ترابية يعلوها غبار الهَرَمَتَّان، وتعتمد حواسيب قديمةً باليةً جُلبت من أسواق لومي أو كوتونو، بطيئة الحركة كأنها تحمل أثقال السنين تحت شمس الساحل الحارقة. وكان الغالب يومئذٍ، بين شباب الحيِّ الشعبي، أن يُرى في الشبكة العنكبوتية وسيلةً للمراسلة والحديث فحسب، أو لمتابعة أخبار كرة القدم الأوروبية.

أما أنا، فمن أول وهلةٍ اتخذتُها سبيلاً للعلم والتثقيف، فكنت أغوص في المواقع بنهمٍ لا يُشبع، أفتح النوافذ تترى، كأني أفتح أبواب المعرفة دفعةً واحدة، مستغلاً كل لحظةٍ مدفوعة الثمن، بينما يتردد خارج المقهى صوت بائعي الشاي الأخضر ونداء المؤذن من المسجد القريب.وفي إحدى الليالي الهادئة، بعد أن غابت الشمس خلف أشجار المانجو، حرصاً مني على حسن الاستثمار في الوقت والفرنكات – إذ كان الأجر بالساعة أو بالدقيقة، وكنا نحسب كل مائة فرنك بعناية – فتحتُ نوافذ عدةً في وقتٍ واحد: ثلاثاً فأربعاً فخمساً؛ فما كان من الحاسوب إلا أن ثقل حمله، وتجمدت أوصاله، وانقطع نفسه كلياً، كأنه أُصيب بلدغة أفعى الصحراء؛ فالتفت إليَّ أخي عبد الله غاضباً متهكماً، وقال بلسانٍ حادٍّ مرح، بلكنة تماشق المحببة:

«يا أيها الخبير… هيا، اصنعْ شيئاً! قد أهلكتَ الجهاز وأفسدتَ علينا الأمر كله!»

ثم أقبل صاحب المقهى، ذلك الزرماوي المرح؛ فلم يزد على أن أعاد تشغيله، فعاد الجهاز إلى الحياة كأنه استيقظ من غفوةٍ عابرة تحت ضوء مصباح النيون الخافت.

أسوق هذه النوادر المستملحة لا لأزعم الخبرةَ حقيقةً، بل لأبتسم لذلك اللقب الساخر الذي رمى به أخي في لحظة مزاحٍ خفيف، وها هو اليوم يُسبغ عليَّ في مقامٍ أرفع وشأنٍ أسمى.

فقد أكرمني الله باستضافةٍ كريمة من مركز توق للأبحاث، لأكون ضمن نخبةٍ من أهل الرأي والاختصاص، نستطلع آراءنا ونستجلي أفكارنا حول معايير تقييم الحالة الإعلامية والفكرية للخطاب الإرهابي والمتعاطفين معه في إقليم الساحل الإفريقي، الذي يضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد.

كانت الورشةُ فرصةً نفيسةً لتبادل الأفكار في عمقٍ وإخلاص، ومراجعة محاور الاستبانة بتؤدةٍ وتأنٍّ، بما يرفع من دقة التقديرات ويحقق أعلى درجات الموثوقية في المخرجات العلمية.

أشكر مركز توق للأبحاث من أعماق القلب على هذه المبادرة الراقية، وعلى ما أولوني من ثقةٍ بدعوتي لأمثِّل المنظور النيجري في هذا الحوار الجليل الذي يمس سلامة أمتنا واستقرار ديارنا.

 

* عمر مختار الأنصاري .. كاتب وسياسي من دولة النيجر .. نيامي، ديسمبر ٢٠٢٥ .

اقرأ المزيد

الدكتور محمود أحمد فراج يكتب : القوة الناعمة المصرية في أفريقيا .. نهضة الحضور منذ عام 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »