محمود صلاح يكتب: الدلائل والقرائن وحدودها في الإدانة الجنائية

في إطار البحث عن الحقيقة في القضايا الجنائية تلعب الدلائل والقرائن دورًا هامًا في توجيه التحقيقات وتقديم الأدلة ومع ذلك فإن الدلائل والقرائن لا تصلح في حد ذاتها لإدانة متهم ما لم تُعزز بدليل إثبات قاطع هذا المبدأ يعكس أهمية التمييز بين الدلائل التي قد تشير إلى تورط المتهم وبين الأدلة القاطعة التي تثبت الجريمة بما لا يدع مجالاً للشك
الدلائل والقرائن قد تكون ذات صلة بالواقعة الجنائية ولكنها غالبًا ما تظل على سبيل الترجيح والإحتمال هذا الترجيح أو الإحتمال لا يرقى إلى مرتبة اليقين القضائي الذي تتطلبه المحكمة للإدانة حتى لو كانت الدلائل والقرائن تشكل أساسًا للإتهام فإنها لا تكفي وحدها لتأسيس حكم إدانة دون وجود دليل إثبات قاطع يدعمها
اليقين القضائي يتطلب الإدانة في القضايا الجنائية دليلاً قاطعًا يصل إلى درجة اليقين القضائي بحيث لا يبقى مجال للشك المعقول في براءة المتهم وحيث إنه من المستقر عليه بقضاء النقض أنه “من المقرر أن الأحكام الجنائية تُبنى على الجزم واليقين من الواقع الذي يثبته الدليل المعتبر ولا تؤسس على الظن والإحتمال من الفروض والإعتبارات المجردة” (الطعن رقم 515 لسنة 46 ق – جلسة 6 / 2 / 1977)
الدلائل والقرائن يمكن أن تكون أدوات مفيدة في توجيه التحقيقات وتحديد مسار البحث عن الأدلة ولكنها لا تُعد دليلاً قاطعًا بحد ذاتها كما أن الشك في صحة إسناد التهمة إلى المتهم يكفي للقضاء بالبراءة حيث أن يكفى فى المحاكمة الجنائية أن يتشكك القاضى فى صحة إسناد التهمة الى المتهم لكى يقضى له بالبراءة إذ أن مرجع ذلك إلى ما يطمئن إليه فى تقدير الدليل ما دام أن الظاهر من الحكم أنه أحاط بالدعوى عن بصر وبصيرة (الطعن رقم 1262 لسنة 36 ق – جلسة 9 / 11 / 1966)
ولما كانت الأحكام الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا الشك والتخمين الأمر الذى لا يسع المحكمة إزاء هذا التشكك سوى أن تقضى ببراءة المتهم من التهمة المنسوبة إليه عملا بنص المادة 304 / 1 من قانون الإجراءات الجنائية
الأمر الأكثر تعقيداً هو عندما تتعارض الأدلة فكيف يحكم القاضي عندما يجد قرائن تشير إلى الإتهام وأخرى تدعم البراءة هنا يأتي دور الإجتهاد القضائي الذي يزن كل دليل بحسب قوته ومنطقيته دون تحيز أو إجحاف فالعدالة لا تطلب الكمال في الأدلة ولكنها تطلب الجدية والموضوعية في تقييمها
وتبقى الغاية الأسمى هي الوصول إلى الحقيقة مع الحفاظ على حقوق جميع الأطراف فالقضاء العادل هو الذي يعرف متى يقول نعم للإدانة عندما تتوفر الأدلة القاطعة ومتى يقول لا عندما يجد الشكوك تحوم حول الأدلة لأن خطأ في تبرئة مذنب خير من خطأ في إدانة بريء هذه هي الفلسفة التي يجب أن تحكم كل قرار قضائي وهي الرسالة التي يجب أن تصل إلى كل من يعمل في حقل العدالة الجنائية
فالفرق بين الترجيح واليقين هو فارق كبير حيث قد تشير الدلائل إلى احتمال تورط المتهم ولكن الإنتقال من مرحلة الترجيح إلى اليقين يتطلب أدلة إضافية تؤكد الإتهام بشكل قاطع ومن خلال الإلتزام بهذا المبدأ يمكن للقضاء أن يحافظ على نزاهته ويضمن أن العدالة تُطبق بالشكل الصحيح دون أن تتأثر بالشكوك أو الظنون غير المؤكدة
وفي النهاية يظل مبدأ الدلائل والقرائن لا تكفي وحدها للإدانة دون دليل إثبات قاطع مبدأً أساسيًا في العدالة الجنائية هذا المبدأ يضمن حماية حقوق المتهمين ويضمن أن الأحكام الجنائية تُبنى على أدلة قاطعة وموثوقة مما يسهم في تحقيق العدالة وضمان حقوق جميع الأطراف..
محمود صلاح – باحث دكتوراه في القانون الجنائي