أخبار عاجلةالرأي

الدكتور حسن العاصي يكتب : سردية أسطورة الصمود الفلسطيني

يحمل الصمود أو ما يمكن ترجمته حرفياً بـ “الثبات” ـ بصفته مفهوماً وطنياً فلسطينياً ـ معنى العزيمة القوية، والإصرار على البقاء في الوطن والتمسك بالأرض.  ويُرجّح أن الصمود كان جزءًا من الوعي الفلسطيني الجماعي بالنضال من أجل الأرض والتشبث بها، يعود تاريخه على الأقل إلى عهد الانتداب البريطاني. إلا أن الصمود، كرمز وطني استخدم في ستينيات القرن الماضي. وأصبح جزءًا من إحياء الوعي الوطني الفلسطيني بعد نشوء حركات المقاومة الفلسطينية كمنظمات رائدة في مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان.. حيث كان اللاجئون المقيمون في المخيمات يُعرفون بالصامدين، إذ كان النضال من أجل الحياة اليومية والحقوق الوطنية في تلك المجتمعات يتطلب مستوى عالياً من الصمود. لقد عزز الصمود رسالة الكفاح المسلح التي سيطرت على خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك. وكان الحاضر الأكبر حين تغيرت الأدوات من النضال المسلح إلى المقاومة اللاعنفية

الصمود هو أكثر من مجرد سمة شخصية، فهو أداة ثقافية ونفسية تربوية فعّالة، وقد أصبح سمة مميزة للمقاومة اللاعنفية في فلسطين. يأتي صمود النساء الفلسطينيات خاصة كنموذج حيّ وعالمي للصمود في ظلّ ظروف بالغة الصعوبة. لهذا النموذج إمكانات تعلّمية هائلة، لا سيما في فلسطين، كما يُجسّد الصمود سرديةً فلسطينيةً راسخةً تتحدى المحاولات العديدة لقمعها أو تشويهها، كما هو الحال في كثيرٍ من الخطاب الغربيّ الشعبيّ حول فلسطين. الصمود إذن فعلٌ من أفعال الوجود والتأكيد على الحق في الحياة على أرض الأجداد.

لقد شهدت المئة عام الأخيرة من التاريخ الفلسطيني ندوباً من النزوح، والتشريد، والنفي، والفقدان. فبالإضافة إلى التطهير العرقي ومصادرة أراضيهم، واجه الفلسطينيون أيضاً تشويهاً متعمداً لتاريخهم وإنسانيتهم. يشعر السكان المدنيون الفلسطينيون يوماً بعد يوم بآثار احتلال عسكري يُعدّ الآن من أطول الاحتلالات في التاريخ المُدوّن، إذ تمتد جذور هذا الظلم إلى عام 1948 حين طردت إسرائيل وهجرت بقوة السلاح حوالي مليون فلسطيني مما أصبح فيما بعد يُعرف بدولة إسرائيل. يتعرض الفلسطينيون الباقون لتمييز ترعاه الدولة، يؤثر على كل جانب من جوانب حياتهم. ومما زاد الطين بلة، أن الواقع الكئيب للمحنة الفلسطينية قد خيم عليه خطاب “سلام” هش وغير فعال خلال العقود القليلة الماضية، لم يترك مجالاً للقصص اليومية عن معاناة الفلسطينيين.

ونظراً لطول المدة التي تحملوا فيها هذا القمع والظلم الصهيوني، فإن هناك عقلية معينة تربط الفلسطينيين ببعضهم البعض. غالباً ما تُغفل، وبالتأكيد لا يتشاركها الجميع، ولكن لا يزال يُنظر إليها على أنها سمة فلسطينية أصيلة. إنها تتعلق بشعور مشترك بالهوية، والحفاظ على القوة الداخلية في مواجهة كل الصعاب – التكامل في مواجهة التشرذم، والحياة في مواجهة الموت. هذا ما يعنيه الفلسطينيون عندما يتحدثون عن الصمود والثبات.

والسلام في هذه البقعة من الأرض لا يُفهم كرؤية مثالية منفصلة عن الواقع اليومي للصراع، ولا كجائزة تُنال عبر سنوات من المناورات الدبلوماسية غير المباشرة والعشوائية. بل يُقدم كشيء موجود بالفعل ومتجذر في التحديات الروتينية التي يواجهها الفلسطينيون. إنه مصنوع من رتابة الحياة اليومية. إنه السمة المميزة لجميع الفلسطينيين الذين يعيشون حياةً خفيةً خلف جدار الفصل العنصري، ويُظهرون، دون وعي، إنسانيةً استثنائيةً في جهودهم للحفاظ على كرامتهم وعدم الاستسلام لليأس، وهم يواصلون تقديم نموذجاً رائعاً عن “روح الصمود” في مدن ومناطق فلسطينية متعددة، مثل مدينتي بيت لحم والقدس.

النظر إلى الصمود من الخارج

للكلمة مزاياها وعيوبها. فالبعد يُمكّننا من رؤية النسيج بأكمله وفهم أنماطه بوضوح أكبر، ومصادر القوة النفسية وأشكال المقاومة الشخصية التي أصبحت شائعة لدى العديد من المجتمعات الفلسطينية. في أبسط صورها، تُناضل وجهة نظر الخارج ضد التهجير والتمييز.

النظرة من الداخل

لا يمكن التعبير عن القيمة الثقافية الفلسطينية إلا باللغة الفلسطينية. ولهذا السبب نتحدث عن الصمود بدلًا من الثبات.

باستخدام هذا المصطلح الأصيل، نحافظ على جميع الأفكار والصور التي ارتبطت به، والتي قد تضيع فجأةً عند ترجمة الكلمة إلى لغات أخرى. والأهم من ذلك كله، أن استخدام المصطلح الأصلي يسمح للفلسطينيين باستعادة روايتهم، التي غالباً ما يتجاهلها أو تُمحى من قِبل المحتلين والقوى الأجنبية على حد سواء. يصف الفلسطينيون الصمود بأنه موضوع مُولّد، وأنه فكرة تستدعي باستمرار قصصاً جديدة.

الكتابة عن الصمود لا تعني فقط التأمل في تجربة ماضية مشتركة، بل فتح الباب أمام مستقبل مشترك. إنها تعني خلق مساحة لمزيد من القصص، تُمكّن رواتها من اكتشاف آفاق وإمكانيات جديدة. إنه فعل تمكيني، إنه هدم للحواجز. وستؤثر طريقة السرد المختارة على كيفية فهم القارئ للتجربة الفلسطينية. معظم القصص قد تكون أوصاف بسيطة للحياة اليومية أثناء تطورها، وأفضل مثال على ذلك هو تدوين اليوميات.

والصمود كأسلوب حياة، شيئاً يتخلل كل ما تفعله طوال يومك – يوم لم يكن يوماً خاصاً بك حقاً، وذلك بفضل الآثار المروعة للاحتلال. يمكّنك الصمود من استعادة حياتك وكرامتك، ويُظهر هذا الشكل العفوي من السرد القصصي عملية الاستعادة بأدق التفاصيل. إلى جانب المذكرات والمقابلات الذاتية، هناك مجموعة متنوعة من المواد الأخرى التي تتيح للقارئ مقارنة القوة التقييدية لجدار الفصل العنصري بالقدرات التحريرية للصمود. العديد من القصص في فلسطين تُقدّمها نساء، يتمتعن بصوت فريد وغالباً ما يكون غير مسموع في المجتمع الفلسطيني. وهذا يُعيدنا مرة أخرى إلى جوهر الصمود: فهو يُتيح صوتاً لمن حُرموا سابقاً من الصوت.

روح الشعب الفلسطيني

الصمود يعكس التحديات المتنوعة التي يواجهها الناس في جميع أنحاء فلسطين. فهناك مجتمعات تعاني من صعوبات أكبر من تلك التي يعاني منها سكان وسط الضفة الغربية. وينطبق هذا بشكل خاص على غزة، التي تعاني من الغارات الجوية المنتظمة وآثار الحصار الإسرائيلي، وكانت لا تزال تكافح لاستعادة عافيتها بعد عملية الرصاص المصبوب (يناير 2009). ثم حوًل العدوان الإسرائيلي الأخير عام 2023 قطاع غزة إلى مقبرة كبيرة للأموات والأحياء.

يواجه فلسطينيو القدس، عاصمة فلسطين، ما يسميه الكثيرون تطهيراً عرقياً صامتاً، وقد أصبحوا أكثر عزلة عن أجزاء أخرى من فلسطين. في غضون ذلك، يواجه المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل تحيزاً وتمييزاً متزايدين في دولة أعلن قادتها أنها لليهود فقط. تُختبر الصمود وتُعاش بشكل مختلف في هذه المجتمعات. ومع ذلك، ثمة قوة في هذا التنوع في التجارب، الذي يدمج المجتمعات الفلسطينية معاً بدلاً من أن يزيد من تفريقها.

إن القوةَ المُوحِّدة للصمود قادرة على الحفاظ على الهوية الفلسطينية. لقد أثبتت السنوات السبع والسبعون الماضية أن المجتمع الفلسطيني، سواءً الجزء الذي بقي في الدولة اليهودية عام 1948، أو الذي يخضع حالياً للاحتلال، أو الذي يعيش في الشتات، قد أظهر حيويةً هائلةً وقدرةً ملحوظةً على إعادة بناء نفسه ومقاومة ضغوطٍ هائلة. إن النظر إلى الفلسطينيين في لبنان، الذين عانوا ويعانون أكثر من أي شريحة أخرى، يُتيح لنا التأمل في معنى الصمود بطريقةٍ لا يفعلها أهل الداخل غالباً. بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، يُعدّ الصمود أمراً مألوفاً وبسيطًا كقهوة الصباح. إنه صفةٌ تُعاش أكثر من كونها شيئًا يُقال. وبينما قد يكون هذا شعاراً للحياة – لا تُخبرني عن الصمود، أرني الصمود – فإن الكلمات ضرورية أيضاً في تحدي ظلم الاحتلال.

يُسهّل البعد إدراك عبثية وقسوة الحياة تحت الاحتلال على حقيقتها. بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، أصبح القمع واقعاً من وقائع الحياة – وبالنسبة لمن ولدوا ونشأوا في ظل الاحتلال، فهو الواقع الوحيد الذي يعرفونه. أحياناً تكون هناك حاجة إلى منظور خارجي كتذكير بأن الوضع الذي أدى إلى الصمود ليس طبيعياً ولا دائماً. وغالباً ما يُثار غضب الفلسطينيين العائدين إلى ديارهم بعد أن ذاقوا طعم الحرية في الخارج عندما يشهدون مصاعب كانوا قد قبلوها سابقاً بطريقة ما على أنها القاعدة.

يُلقي المنظور الخارجي ضوءًا بارداً صارخاً على الصور النمطية عن الشعب الفلسطيني المنتشرة في الدول الغربية. عادةً ما تعزل هذه الصور النمطية الفلسطينيين العاديين عن الأشياء التي تُلهمهم وتكمن في صميم قضيتهم: الجذور العميقة في الأرض، والحاجة إلى سبل العيش، والرغبة في الاعتراف بثقافتهم وتاريخهم. غالباً ما يتم تصوير الشخصيات الفلسطينية في كتب اللغة الإنجليزية التي تدور حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إما كبيادق في أيدي قوى شريرة مجهولة الهوية (إرهابيين)، أو كأشخاص تحكمهم العاطفة على العقل، وبالتالي غير قادرين على فهم وضعهم. ولا يُعرفون بالصامدين، ويُغفل جزء أساسي من هويتهم الثقافية. ومع ذلك، فإن بعض صفات الصمود تحظى باهتمام خاص لدى مجتمعات وثقافات أخرى، وقد تكون هذه الصفات وسيلةً لتبديد الصور النمطية وتعريف الغرباء بالعالم من وراء الجدران. ويحظى تقاليد الضيافة، التي تُشكل أساس المجتمع الفلسطيني، بتقدير واسع في الدول الغربية، حيث يتجدد تقدير الناس للحياة الأسرية وفوائدها للمجتمع بأسره. يمكن للصمود أن يكون مرآةً للعالم، تُمكّن الناس من مختلف أنحاء العالم من استلهام معانيه.

 أرضٌ للاختبار

بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ـ التي بدأت عام 2000 وانتهت عام 2005 ـ بفترة وجيزة، ومع كل ما رافقها من مصاعب ساحقة، اعتبر الفلسطينيين الأرض المقدسة أرضٌ للاختبار. يُقدّم هذا نظرةً ثاقبةً عميقةً إلى معنى الصمود. من المستحيل فهم هذا المفهوم، الذي يُعدّ محوريًا في المقاومة اللاعنفية في فلسطين، دون الإشارة إلى المشقة والألم اللذين كانا بمثابة نارٍ مُنقّيه. لا يمكن وصف حجم ذلك الاختبار ومدى المعاناة الإنسانية التي ارتبطت به. واكتشاف وفهم كلاً من المعاناة النفسية والصعوبات العملية الناجمة عن الاحتلال العسكري لفلسطين، في محاولة لقياس مدى الصمود اللازم لمواجهتها وحل بعض التحديات التي يواجهها الناس وهم يحاولون تنمية الكرامة الفريدة في أنفسهم.

على سبيل المثال فإن طريق الخليل شمال بيت لحم. كان يتميز بالأناقة. وكان المشي هناك متعة. تحد الطريق منازل من الطبقة المتوسطة والعليا، يعود تاريخ العديد منها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بُنيت المنازل على شكل “قصور صغيرة” ذات طابع شرقي مميز، بأعمدتها الحجرية المصفرة المزخرفة وأقواسها المزينة بالنباتات الخضراء والزهور

بعد ذلك بوقت قصير، تغيَّر المشهد جذرياً. بُنيت مستوطنة “هار حوما” الإسرائيلية على جبل أبو غنيم، ثم جاء الجدار العازل. كان هذا الشارع في السابق أكثر شوارع بيت لحم ازدحاماً. أما الآن، فقد شُقَّ الطريق إلى نصفين بفعل الجدار وأبراج مراقبته، والمحطة العسكرية التي يجب على كل من يرغب في الوصول إلى القدس المرور من خلالها. وصلت آثار التهجير إلى هذا الحي قبل عشرين عاماً من بدء الاحتلال العسكري للمجتمع الفلسطيني، باستثناء سكان غزة. على الرغم من الفظائع المتسلسلة التي ارتُكبت ضدهم، وتعدد الأعداء الخارجيين الذين واجهوهم، والأخطاء والإخفاقات الفادحة للقيادة السياسية، فإنهم، مثل الغزيين، يتمكنون من الحفاظ على تماسكهم الاجتماعي في ظل ظروفٍ بالغة الصعوبة.

لذلك يُعدّ “الصمود” مفهومًا لبناء الجسور. إنه مفهوم ديناميكي: إذ تنمو القصة الفلسطينية عمقًا وثراءً، مع إضافة تفاصيل دقيقة مع كل صوت جديد. ونظراً لحيوية “الصمود”، لا يمكن لمقال واحد أن يُستكمل أبداً، ومثل “الصمود” نفسه، فهو عملٌ قيد التنفيذ.

كانت الانتفاضة الأولى، التي اندلعت عام 1987 واستمرت حتى عام 1992 تقريباً، تعبيراً عن توق الشعب الفلسطيني إلى الحرية والانعتاق من نير الاحتلال، وبناء دولته المستقلة.

في ذلك الوقت لم تسمح فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على بممارسة معظم أنشطة الحياة اليومية العادية. على سبيل المثال، بحجة أن الفصول الدراسية النظامية تؤدي إلى اضطرابات سياسية، دأب الجيش الإسرائيلي على حظر التعليم الرسمي في الأراضي المحتلة، وأغلق جامعات الضفة الغربية وآلاف المدارس. واعتباراً من عام 1989، أُغلقت حتى دور الحضانة. وكان من الممكن أن يُعتقل الناس ويُحتجزوا بحسب رغبة الجيش.

 وقبل ما يقرب من خمسين عاماً من بناء الجدار العازل الذي بنته إسرائيل عام 2002، استأجرت الأمم المتحدة قطعة أرض من امرأة من بيت لحم تُدعى عايدة. ولا يزال مخيم اللاجئين الذي بُني على تلك الأرض، والذي كان يُقصد به في البداية أن يكون مخيماً مؤقتاً للفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك منازلهم إبان قيام إسرائيل، وما زال المخيم قائماً حتى اليوم ويحمل اسم عايدة. وبالتالي، يُجسد حي “قبر راحيل” الذي يقع عند مدخل بيت لحم الشمالي في طريق القدس- الخليل التاريخي، وهو موقع ذو أهمية دينية وثقافية عميقة باعتباره يضم حسب التقليد قبر راحيل، زوجة يعقوب.

يُجسد ذلك الحي المأساة الفلسطينية متعددة الجوانب في صورة مصغرة. ويُذكرنا مخيم عايدة وسكانه بالموجة الأولى من التطهير العرقي خلال النكبة. يتجلى نظام السيطرة المُعقّد الذي يفرضه الاحتلال، وعنفه المُعلّق، من خلال الوجود المُهدّد للجدار، وأبراج المراقبة، ونقطة التفتيش، بينما تُظهر مستوطنتا “جيلو” و”هار حوما” المجاورتان قوة المحتلين المُتعدية. لقد حوّلت المعاناة والحرمان تلك المنطقة إلى بوتقة صمود، ومركزاً لشكل قويّ وشخصيّ من أشكال المقاومة.

الاحتلال قبل الجدار

كانت الضفة الغربية تحت السيطرة الأردنية بين عامي 1948 و1967. كان السفر خلال تلك الفترة، بين إسرائيل والأردن الدولتين المعاديتين، صعباً للغاية.. بعد بدء الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وعندما أصبح المرور بين القدس وبيت لحم ممكناً مرة أخرى، كانت المنطقة المحيطة بقبر راحيل تشهد زيارات متكررة من جانب الإسرائيليين الباحثين عن الصفقات، والذين اعترضوا على أسعار القدس. وبدأت المتاجر والكراجات تفتح أبوابها على طريق الخليل. وشهد سكان بيت لحم نمواً في دخلهم مع التدفق المستمر للسياح والحجاج الذين تدفقوا إلى بيت لحم من القدس. أصبحت بيت لحم مدينة سياحية، وبدأت الفنادق والمتاجر والحرفيون في ممارسة أعمال تجارية حقيقية.

يُذكر ذلك الوقت من قبل الناس الآن بشيء من الحنين إلى الماضي. فبينما احتج الفلسطينيين على الاحتلال، وحظر التجول المطول ومداهمات الجيش؛ ورغم الغياب المقلق للتنمية الاقتصادية المخططة والمستدامة، إلا أنه كان هناك قدراً من الاستقرار.

كان شباب مخيم “عايدة” في جميع أنحاء الضفة الغربية، في طليعة مقاومة الاحتلال. يكشف دور اللاجئين في النضال ضد وضع يزداد قمعاً مع مرور كل شهر عن أصول الصمود.. جذورها تكمن في أحلك تجارب فلسطين، والتي ربما تكون المخيمات أبرزها وأكثرها إيلاماً.

على الرغم من الاحتجاجات المحلية، تم الانتهاء من بناء مستوطنة “هار حوما” عام 1996، مع بزوغ فجر الانتفاضة الثانية. خلال سنوات الانتفاضة، أصبح قبر راحيل نقطة الاشتعال الرئيسية بين الجيش الإسرائيلي والمقاتلين الفلسطينيين في بيت لحم. ومع مرور الوقت، تحول الموقع إلى حصن محصّن بشدة. أصبح الحي ساحة حرب، بجدران تحمل آثار الرصاص ودبابات تجوب الشوارع. وكانت المنازل تحت سيطرة الجنود الإسرائيليين بشكل روتيني.

وكثيراً ما كان السكان يُحشرون في زاوية من غرفة المعيشة بينما يُطلق الجنود النار من نوافذهم. ولأن المنطقة كانت تحت السيطرة العسكرية المباشرة، فتش الجيش المنازل بانتظام، وفُرضت قيود صارمة على حرية تنقل السكان، حتى في دخولهم وخروجهم من منازلهم. وينتظر الناس عند الحاجز العسكري أمام منازلهم لما يقرب من ست ساعات قبل أن يُعلن القائد أخيراً أنه لن يُسمح لهم بعبور العشرين ياردة إلى عتبات أبوابهم.

وكما هو الحال في أماكن أخرى في الأراضي المحتلة، نظّم سكان بيت لحم دروساً سرية لطلاب المدينة؛ فأصبح التعليم السري سمة مميزة للمقاومة الشعبية. ومع ذلك، بدأ حماسها يخبو في أوائل التسعينيات، وتراجعت الانتفاضة ببطء. لم تكن هناك نهاية حقيقية للقمع، بل مزيج مربك من الاحتلال العسكري المستمر مع ببعض التنازلات للحكم الذاتي الفلسطيني.

وقدمت “أوسلو”، ما يسمى بعملية السلام التي بدأت عام 1993، بادرة أمل عابرة. في البداية، بدت وكأنها انفراجة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. تأسست السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات ومُنحت السلطة القضائية الكاملة على أجزاء معينة من الضفة الغربية، من بينها بيت لحم. تُعرف هذه المناطق مجتمعة باسم “المنطقة أ”. كان من المفترض أن تكون هذه خطوة على طريق تقرير المصير الفلسطيني الكامل. ومع ذلك، تدهور الوضع بسرعة، مع توسع المستوطنات بدرجة غير مسبوقة وتوغّلها في الأراضي الفلسطينية بشكل أعمق. أُقيم حاجز تفتيش مؤقت بين القدس وبيت لحم في وقت مبكر من عام 1993، عام اتفاقية أوسلو. كانت هذه بداية الحبس الذي أصبح لاحقًا السمة الرئيسية للحياة في الضفة الغربية وغزة.

تشديد الخناق

خلال التسعينيات، أصبح قبر راحيل معقلًا للجيش الإسرائيلي. ومنذ ذلك الحين، بدأ عدد متزايد من الحجاج اليهود بزيارة القبر كتعبير عن القومية الدينية – رغبة في استيطان كامل أرض إسرائيل، بما في ذلك الضفة الغربية. ورغم قدسية المقام لدى المسلمين والمسيحيين، فقد مُنع سكان المنطقة من الوصول إليه. وما كان مكاناً مشتركاً للصلاة ومعلماً مميزاً للحي، تحول إلى رمز للاحتلال، محاطاً بحراس مسلحين وأسلاك شائكة. واشتدت قيود السفر. وواجه شباب مخيم عايدة للاجئين صعوبة متزايدة في الحصول على التعليم والعمل.

وصودرت أراضي من أصحابها في المنطقة بشكل كامل، أو أصبح الوصول إليها شبه مستحيل بسبب الجدار.

عائلة فلسطينية كانت تمتلك ثلاث قطع أرض كبيرة مزروعة بأشجار الزيتون في المنطقة التي أقام فيها الإسرائيليون مستوطنة هار حوما. ثم شقّ الإسرائيليون طريقاً عسكرياً من المستوطنة إلى القدس. يمرّ هذا الطريق عبر أراضيهم.  كان يُسمح للعائلة وأقاربهما، في حالات استثنائية، بدخول بستان زيتونهم.

لم يكن فقدان الأرض سوى أحد التحديات الرئيسية التي واجهها سكان القرى والمدن الفلسطينية بعد بناء الجدار. بالإضافة إلى مصادرة الأراضي، أثر الجدار على حرية التنقل، والممتلكات، والخدمات المجتمعية، والتفاعل بين مختلف المجتمعات.

وكانت العزلة والفقدان من المواضيع المتكررة. نظراً لقربها من القاعدة العسكرية، كان سكان بيت لحم الآخرون يخشون زيارة منطقة قبر راحيل. ومثل جروح الرصاص التي لا تزال موجودة في بعض الجدران، لم تتم إزالة الخوف الذي وُلد خلال سنوات الانتفاضة الثانية تماماً. انفصل الجيران عن بعضهم البعض على مدار يوم واحد عندما شُيّد الجدار في منتصف الشارع، وعلى الرغم من ذلك، شُيّد الجدار الفاصل في عامي 2004 و2005، مما أدى إلى بتر قبر راحيل عن الحي. تحوّلت نقطة التفتيش القديمة إلى محطة داخلية كبيرة وباردة، أشبه بمسلخ. وتضمنت بوابات دوارة مقفلة، وأجهزة كشف معادن، وغرفاً للتفتيش العاري، وممرات ضيقة مسدودة بحواجز، حيث يمكن لمئات الأشخاص الانتظار لحين إتمام إجراءاتهم.

بررت إسرائيل وجود نقطة التفتيش والجدار بالإشارة إلى ضرورة حماية المدنيين الإسرائيليين من الهجمات؛ بينما يعتبر الفلسطينيون بأن الجدار يشقّ عمق الأراضي الفلسطينية ويقطع مئات الآلاف من الناس عن أعمالهم ومدارسهم وعائلاتهم وسبل عيشهم. ورأوا في ذلك استمراراً لمصادرة الأراضي التي بدأت قبل بناء الجدار بوقت طويل. في عام 2004، أيدت محكمة العدل الدولية الموقف الفلسطيني، إلا أن الجدار استمر في الامتداد عبر الضفة الغربية. يقول السكان المحليين بمرارة أنهم فقدوا كل ما يملكون، ويشعرون بأن العالم قد نسيهم.

الاختبار

بعد بناء الجدار، اضطرت جميع المؤسسات التجارية السبعين تقريباً الواقعة على طول طريق الخليل شمال بيت لحم إلى الإغلاق. لقد أثر الجدار على الوضع الاقتصادي للفلسطينيين بشكل كبير.  كان بإمكان سكان بيت لحم العمل في القدس وتل أبيب في الماضي، وهما مدينتان تقعان حالياً على الجانب الآخر من الجدار. أما الآن، فأصبح الوصول إلى هناك صعباً للغاية. وأصبحت المنطقة مهجورة. وعند الوقوف على قمة إحدى التلال يمكن للزوار رؤية بساتين الزيتون الخضراء تنحدر بعيداً عن بيت لحم على الجانب الآخر من الجدار. بعيداً عن كونها علامة على الحياة، فإن الأغصان الخضراء – قريبة جداً لدرجة أنك تستطيع رؤية الطيور تجثم على أغصانها.

يحيط الجدار بمنزل بعض الفلسطينيين من ثلاث جهات، لدرجة أنهم يشعرون وكأنهم يعيشون في قبر، والأطفال يتساءلون إن كانوا سيموتون.

وأنت تمشي في ذلك المكان على طول الجدار يمكن لك أن تلمس هذه المشاعر والقلق. وهذا ينطبق بشكل خاص على من يعرف كم كانت المنطقة حيوية في الماضي، ولا تزال الحياة الطبيعية على بُعد بضع مئات من الأمتار شمالًا، حيث يمر طريق سريع مزدحم، يبدو كما لو كان في عاصمة غربية، بسيارات إسرائيلية إلى القدس وما بعدها. وعند المشي في منطقة شمال بيت لحم، مروراً بمنازل تبدو أناقتها الآن غريبة وغير مألوفة، ينتابك شعور بفقدان عميق. هذا ليس فقط بسبب المنظر الكئيب للجدار. يتجاوز اختبار الصمود هنا الجوانب العملية للحياة وواقعية وشعور السجن. يتعلق الأمر بالتعامل مع شعور بأنك لم تعد موجوداً، وأنك تفقد أرضك أو جذورك.

يجد بعض السكان صعوبة في استعادة أي ذكريات عن المكان كما كان من قبل. من الناحية النفسية، يمحو الجدار الذكريات بمظهره المخيف. هذا الشعور الذي يُصيب الناس بالشلل والفقد يوجه من خلال تنمية الصمود.

الشعور بالوقت هناك مروعاً. لم يكن أحدٌ يسير هنا، سوى القطط والكلاب. يُولّد الجدار شعوراً بأنه يُحيط بك؛ وبأنك ممنوع من الحركة. في كل مرة، كل يوم، يرى الفلسطينيين الجدار. عندما ينظرون إلى الخارج من النافذة ليروا شروق الشمس أو غروبها، يكون الجدار أمامهم. عندما يذهبون إلى الجدار، يشعرون بشيءٍ ما يُغلق على قلوبهم، كما لو كان الجدار على جاثم على صدورهم.

على الرغم من أن الجدار قد فصل السكان عن جيرانهم، وغمرهم بالقدرة على التواصل عبر الطريق الطويل، إلا أنه سيستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يبدأ الناس في الشعور بالاستعداد النفسي لسلوك ذلك الطريق.

كان مخيم عايدة الأكثر تضرراً في الحي، فأصبح واحداً من أكثر أحياء بيت لحم عزلةً. فصل الجدار أحياء اللاجئين المزدحمة عن بساتين الزيتون حيث اعتادوا الاستمتاع بنزهاتهم وقضاء أوقات ممتعة في الهواء الطلق. ولأن جامعي القمامة التابعين للبلدية كانوا يخشون دخول المنطقة، ملأت رائحة النفايات غير المجمعة الطريق الضيق المسوّر المؤدي إلى المخيم.

أصبح الحي المحيط بالجدار، والذي اشتهر سابقاً بأناقته المعمارية التقليدية وإطلالاته الخلابة على المناظر الطبيعية، أرضاً قاحلة، يعكس مظهرها المادي الواقع النفسي لسكانها. وفقد الناس حياة مجتمعية نابضة بالحياة وصداقاتهم العزيزة:

كثير من السكان لم يعودوا يستطيعون الذهاب إلى القدس؛ فالجدار يفصلهم عن دور العبادة، وعن حياتهم السابقة، وعن عائلاتهم ومعارفهم. وبدأوا يشعرون أنهم فقدوا حياتهم وهويتهم في هذه البيئة المتشرذمة والمتقلصة. وليس السجن الجسدي فقط هو ما يُشعرون به، بل يشعرون بالاغتراب بعمق بسبب التغيرات الجذرية في بيئتهم، فيما يروه، ويشعرون به، ويسمعونه، ويلمسونه، ويشمّونه.

إن الأسئلة الأولى بالنسبة لهم عملية بحتة. كيف أعيش؟ كيف أواصل حياتي اليومية، محافظاً على سلامتي في هذه الأثناء؟ ما الدعم الذي أحتاجه حتى أفكر في الصمود في هذا الوضع؟ بعيداً عن الجوانب العملية للحياة اليومية، كيف أجد الروح الإنسانية اللازمة للمقاومة؟ كيف أستمد القيم النقية – حب الكرامة والتفاني في سبيل العدالة – من حياةٍ مُقيّدة بشدة سنوات من الاحتلال العسكري؟ وهنا تبدأ التعقيدات والاعتراضات بالظهور.

كيف يُمكننا مواصلة النضال عندما يزداد صعوبة معرفة، بل وحتى الاعتراف، بأرضنا ووطنا؛ عندما لا يعود لهما القيمة التي كانا عليها سابقاً؛ عندما لا نشعر حتى أنهما وطن؟ ..عندما نصبح سجناء في بيوتنا أو منفيون في أرضنا ..كيف نغرس جذورنا في الأرض المسمومة؟ كيف نعطي معنىً لبيئتنا المعيشية عندما ندرك من النافذة أن البيئة تموت؟ كيف تحافظ على احترامنا وثقتنا بأنفسنا في مواجهة ما يُطلق عليه الإسرائيليون “هافرادا” أو الفصل العنصري – ويُطلق عليه آخرون “الأبارتهايد” – الذي يُخبرنا نحن والعالم بأننا خطيرون جداً بحيث لا نستحق حياةً كريمةً طبيعية؟ كيف يُمكننا أن نكون صادقًين مع قصتنا الخاصة بينما مُصممو هذا الفصل العنصري، من الجيش والإعلام أن يصوّروننا في دور الأشرار؟ كيف يمكننا رفع أصواتنا عندما لا يوجد من يسمعنا؟ وماذا يمكننا أن تفعل كبشر أمام هذا الجدار الضخم، سوى ضربه بقبضاتنا؟ ألا يعني الجدار نهاية المقاومة؟ نقاط التفتيش الكئيبة وأبراج المراقبة وغيرها من المنشآت الملحقة بالجدار ترسل رسالتها الخاصة: انسَ أمر المقاومة، أخضع نفسك، فأنت مُراقَب. لكن بالنسبة لنا فإن الأمر كله يتعلق بصعوبة الحفاظ على الأمل حياً.

  • الدكتور حسن العاصي .. أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

 

إقرأ المزيد

الدكتور حسن العاصي يكتب : أزمة الهويات الأوروبية.. صراع وتحالف:

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »