أخبار عاجلةالرأي

رامي زهدي يكتب : قراءة في الإستعمار الرقمي الجديد للقارة الإفريقية

في وقت أصبحت فيه معركة السيطرة على الوعي الرقمي في إفريقيا تُدار بين أطماع القوى الكبرى وحتمية السيادة الإفريقية الوطنية، بعد أن أصبحت إفريقيا في قلب صراع رقمي عالمي، ففي زمن يتحول فيه العالم إلى قرية رقمية، لم تعد الحروب تُخاض بالجيوش فقط، بل بالخوارزميات والبيانات. إفريقيا، القارة التي طالما كانت ساحة للتنافس السياسي والاقتصادي والعسكري بين القوى الكبرى، أصبحت اليوم ساحة جديدة ومفتوحة لمعركة من نوع مختلف هي معركة السيطرة على الوعي الرقمي.

هذه المعركة لا تُخاض بالسلاح التقليدي، بل بالأدوات الرقمية التي تُشكل الإدراك وتُوجه السلوك وتُعيد صياغة العقول. إنها حرب على العقول أكثر من كونها حربًا على الأرض.

عبر فخ رقمي عنيف، أصبحت إفريقيا هدفًا للغزو السيبراني، فمع تزايد اعتماد المجتمعات الإفريقية على التكنولوجيا، والانفتاح الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي، والانتشار الواسع للهواتف الذكية، باتت القارة عرضة لاستغلال رقمي متسارع.

حيث تشير تقارير دولية إلى أن أكثر من 60% من البنية التحتية للإنترنت في إفريقيا تسيطر عليها شركات أجنبية، وأن معظم مراكز البيانات السحابية التي تخزن بيانات المستخدمين الأفارقة موجودة خارج القارة.

ولا تقتصر السيطرة على البنية التحتية، بل تمتد إلى منصات التواصل التي يستخدمها الشباب الإفريقي، والتي تتحكم في الخوارزميات التي تُحدد ما يراه المواطن وما لا يراه، ما يُشجع وما يُقمع، ما يُروّج له وما يُعاقب عليه.

وتشير تقارير الأمن السيبراني إلى أن هناك تنافسًا محتدمًا بين الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، وبعض القوى الأوروبية، للسيطرة على الفضاء السيبراني الإفريقي.

فالصين، عبر شركات مثل هواوي وZTE، تبني شبكات الجيل الخامس في عدد كبير من الدول الإفريقية، وتقدم “حلولًا ذكية” لإدارة المدن والحدود، لكنها تحصل بالمقابل على صلاحيات غير مسبوقة على البنية التحتية الرقمية.

بينما، الولايات المتحدة من جانبها تدعم برامج تدريب و”حماية” إلكترونية، وتقدم خدمات عبر عمالقة التكنولوجيا مثل Google وMeta، لكنها تتحكم في تدفق البيانات وتحللها لأهداف استخباراتية وتجارية.

أما، روسيا تسعى للنفاذ عبر التعاون الأمني الإلكتروني، خصوصًا مع دول تعاني اضطرابات سياسية، وتروج لرواياتها عبر منصات إعلامية رقمية موجّهة للقارة.

وعبر سيادة رقمية مفقودة، تتعاظم التهديدات والتحديات التي تواجه دول القارة الإفريقية، ومن ابرز هذه التحديات، انعدام السيادة على البيانات، حيث أن معظم بيانات المستخدمين الأفارقة تُخزن وتُحلل خارج بلدانهم، ما يجعلها عرضة للاستغلال لأغراض تجارية وسياسية.

وأيضا، الرقابة الرقمية الخارجية والتي تقييد وصول المستخدمين لمحتوى معين أو تعمل علي ترويج روايات منحازة يتم من خلال التحكم في الخوارزميات، مما يؤدي لتشويه الواقع السياسي والاجتماعي.

إضافة إلي الهجمات السيبرانية، في وقت أكثر من 80% من المؤسسات الحكومية الإفريقية لا تمتلك أنظمة دفاعية قوية ضد الهجمات الإلكترونية، وفقًا لتقرير الاتحاد الإفريقي 2023.

بخلاف ان الاعتماد على البنية الرقمية المستوردة حتى اليوم أمر شديد الخطورة، فلا تنتج إفريقيا سوى أقل من 1% من مكونات الأجهزة الذكية التي تستخدمها.

“الاستعمار الرقمي الجديد” 

لقد تطورت أدوات السيطرة، ولم تعد تقتصر على الاحتلال العسكري أو النفوذ الاقتصادي، بل أصبحت أكثر خفاءً وتأثيرًا، فالمنصات الرقمية الأن تهيمن شركات أجنبية عليها تماماََ، وتستخدمها لإعادة تشكيل الرأي العام، أو حتى تحفيز الاحتجاجات أو دعم حكومات معينة.

أيضا، الذكاء الاصطناعي الموجّه، حيث يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي غالبًا على بيانات غير إفريقية، ما يجعلها تنحاز ثقافيًا وتاريخيًا لرؤى غير محلية، وتكرّس الهيمنة المعرفية الغربية.

إلي جانب، الخرائط الرقمية والتحكم في السرديات، فحتى اليوم، تُستخدم خرائط رقمية في كثير من التطبيقات لا تعترف ببعض الحدود أو النزاعات الإفريقية، مما يرسخ سرديات استعمارية قديمة.

“الدفاع عن الوعي و خطوات نحو السيادة الرقمية الإفريقية” 

ربما خطوات كثيرة تحتاجها الدول والحكومات الإفريقية لمواجهة هذا التحدي الإستعماري الرقمي الجديد، منها، العمل علي إنشاء مراكز بيانات إقليمية إفريقية تحفظ البيانات داخل الحدود السيادية للدول، وتخضع لقوانين محلية.

وكذلك، تعزيز البنية التشريعية من خلال قوانين وطنية لحماية البيانات الشخصية ومكافحة الهجمات السيبرانية، بالتوازي مع وضع إطار قاري ملزم من خلال الاتحاد الإفريقي.

وكذلك دعم الشركات الناشئة الإفريقية في مجالات التكنولوجيا، وتوفير حوافز للاستثمار في صناعة البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا السحابة.

ربما أيضا من المهم. جدا، السعي نحو إنشاء منصة تواصل اجتماعي إفريقية موحدة تراعي الخصوصية الثقافية وتكون أداة سيادية للتواصل الجماهيري، ودعم التعليم الرقمي والوعي الإعلامي من خلال تعزيز برامج التربية الإعلامية والرقمية في المدارس والجامعات لمواجهة التضليل والتلاعب الرقمي.

“مصر ودورها في تعزيز السيادة الرقمية الإفريقية” 

في خضم هذه التحولات، يبرز الدور المصري بوصفه ركيزة أساسية لأي تحرك جماعي إفريقي في ميدان الأمن الرقمي والسيادة التكنولوجية. فمصر، بخبرتها في بناء بنية تحتية رقمية قوية، وبامتلاكها كوادر علمية وتكنولوجية متقدمة، قادرة على أن تقود محورًا إفريقيًا لصياغة مستقبل رقمي مستقل.

مبادرات مصر في دعم التحول الرقمي داخل مؤسسات الاتحاد الإفريقي، والمشاركة الفاعلة في المنتديات الخاصة بالأمن السيبراني، وتدريب الكوادر الإفريقية من خلال أكاديميات متخصصة مثل “الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد” و”معهد تكنولوجيا المعلومات”، كلها تشكل نماذج عملية يمكن البناء عليها.

بل يمكن القول إن تأسيس تحالف سيبراني إفريقي تقوده مصر بالتنسيق مع دول محورية كنيجيريا، وكينيا، وجنوب إفريقيا، سيكون الضمانة الحقيقية لاستعادة القرار الرقمي السيادي، وتقليص فجوة التبعية التكنولوجية التي تتسع يومًا بعد يوم، والعمل علي منصة لصياغة وعي جديد، فليست القضية في مجملها تقنية فقط، بل هي ثقافية وسياسية واستراتيجية. فنحن بحاجة إلى إعادة تعريف علاقتنا كأفارقة مع الفضاء الرقمي، ليس كمستهلكين، بل كمنتجين، ليس كمستهدفين، بل كصناع محتوى وملاك لمنصاتنا وبواباتنا الرقمية.

هذه المعركة ليست ترفًا فكريًا، بل صراع بقاء على المدى البعيد. ومن لا يملك الفضاء الرقمي، لن يملك زمام قراره في عالم تقوده المعلومات وتتسيده الخوارزميات.

أخيراََ، نحن على أعتاب معركة الوعي.. وسلاحها السيادة الرقمية، بعد أن خاضت إفريقيا في تاريخها حروبًا ضد الاستعمار، وضد الفقر، وضد الجهل. واليوم، تدخل حربًا جديدة – حرب لصالح الوعي، حرب على التحكم في تدفق البيانات، حرب على السرديات التي تُصاغ من خارج حدودها.

إن كسب هذه الحرب لا يكون إلا بـتوطين التكنولوجيا، وتحرير القرار السيبراني، والاستثمار في العقول قبل الآلات ، وتعزيز التعاون الإفريقي في هذا المجال الحرج.

فليكن شعارنا من الآن: “الوعي الرقمي ضرورة”، و”لا أمن حقيقي بدون أمن رقمي.. ولا استقلال فعلي بلا سيادة على الفضاء الرقمي.”

 

اقرأ المزيد 

الرئيس السيسي: مصر تواصل مساعيها واتصالاتها الدولية لدفع إسرائيل نحو انسحاب فوري وغير مشروط من لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »