رامي زهدي يكتب : الدبلوماسية الاقتصادية المصرية في إفريقيا.. قراءة استراتيجية لجولة وزير الخارجية في خمس دول إفريقية

في ما بين الجغرافيا والإرادة السياسية تولد التحولات، وفي توقيت بالغ الدقة، وتحت مظلة استراتيجية مصرية واضحة المعالم في إفريقيا، جاءت الجولة المكثفة لوزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، إلى خمس من دول غرب وشمال-غرب القارة: تشاد، بوركينا فاسو، مالي، النيجر، نيجيريا، بصحبة وفد رفيع من 30 من رجال الأعمال ورؤساء الشركات الكبرى المصرية. وهي ليست مجرد زيارة دبلوماسية تقليدية، بل إعلان ضمني عن ولادة مرحلة جديدة في علاقات مصر مع عمقها الإفريقي، تتجاوز فيها البُعد السياسي إلى فضاء أرحب من التعاون الاقتصادي، والاستثمار الاستراتيجي، والتموضع التنموي طويل الأمد.
مابين دلالات لهذه الجولة ورمزية الدول المختارة، بالتوازي مع تواجد هذا العدد الكبير من الفاعلين الاقتصاديين المصريين في قلب بلدان الساحل الإفريقي، تظهر محاور شكلت جوهر هذه التحركات المصرية المنهجية، فاختيار دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكلها تعاني من تحديات أمنية واقتصادية كبرى، بالإضافة إلى تشاد ونيجيريا، يشير بأن مصر لا تنطلق في تحركاتها الإفريقية من حسابات قصيرة المدى أو من اعتبارات إعلامية، بل من رؤية استراتيجية تقوم على ما يمكن تسميته بـ”الجغرافيا الاقتصادية ذات البعد الأمني”. هذه الدول تمثل منطقة الساحل التي تشكل إحدى أخطر مناطق العالم من حيث انتشار التنظيمات المسلحة، والهشاشة السياسية، والفقر متعدد الأبعاد، وفي الوقت ذاته تزخر بموارد معدنية هائلة، وشبكات مائية واعدة، وسوق سكانية تتجاوز 300 مليون نسمة.
وبالتالي، فإن توجه مصر إلى هذه المنطقة ليس دعمًا سياسيًا فقط، بل هو انخراط في معادلة إعادة صياغة مستقبل غرب القارة.
وأن يرافق وزير الخارجية المصري وفد يضم 30 من كبار رجال الأعمال، وممثلي كبريات الشركات الوطنية في قطاعات البناء، الكهرباء، الأدوية، البنية التحتية، المياه، الطاقة، النقل، والزراعة، فإن ذلك يحمل رمزية مزدوجة لإرادة دولة شاملة،حيث يؤكد ذلك أن مصر لا تذهب إلى إفريقيا بخطاب سياسي بل بحزمة أدوات تنموية واقتصادية متكاملة.
وكذلك هو تمكين للقطاع الخاص، حيث يُبرهن منهج الزيارة على أن الدولة المصرية باتت تنظر إلى القطاع الخاص كشريك في صياغة العلاقات الخارجية، وكسفير للاستثمار المصري في القارة.
كما يتضح التحول إلى الدبلوماسية الاقتصادية، فهذه الزيارة تجسيد عملي لما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الاقتصادية المصرية الجديدة”، حيث تتكامل السياسة الخارجية مع أدوات التنمية، والمال، والتجارة، والخبرة التراكمية.
منذ بداية عام 2025، أجرت مصر تحركات دبلوماسية شملت أكثر من 90% من دول القارة الإفريقية، إما عبر الزيارات المباشرة أو استضافة القادة والمسؤولين، أو من خلال التمثيل المصري الرفيع في المحافل الإقليمية الإفريقية، او الأتصالات الهاتفية واشكال التواصل والرسائل.
ويلاحظ في ذلك الشمولية وتنوع الأقاليم الجغرافية، حيث لم تقتصر الزيارات على شرق أو جنوب أو غرب القارة، بل شملت جميع الأقاليم، ما يؤكد أن التحرك المصري لا يعتمد على محاور ضيقة بل على استراتيجية شاملة.
وأيضا استدامة واستمرارية التواصل، فليس هناك فراغ دبلوماسي مثلما كان يحدث في عهود سابقة، بل هناك جدول تحركات متسق، يُبنى عليه باستمرار.
بالإضافة إلي الربط بين التوجه السياسي والتنموي، ففي معظم هذه الزيارات، تكون ملفات التعاون الاقتصادي، ونقل الخبرات، والمشاركة في مشروعات التنمية، حاضرة بقوة، وهو ما يشكل نقلة نوعية في أدوات مصر الإفريقية.
وفيما يتعلق بهذه الزيارة خماسية الوجهات، تحديدا، ومن الناحية الاستراتيجية، اولا، تشاد ودول الساحل هي بوابة فاعلة نحو الأمن القومي المصري الممتد، وهي أيضًا عمق إفريقي مهم من الناحية الديمجرافية والاقتصادية. وهذا التوجه يأتي في ظل التحولات الجيوسياسية بالمنطقة، خاصة بعد انسحاب فرنسا العسكري التدريجي، وصعود النفوذ الروسي، وتنامي الوجود التركي والصيني .. وبالتالي فإن لمصر أن تكون حاضرة بقوة عبر أدوات ناعمة وخشنة في آنٍ معًا، عبر الدبلوماسية، الاستثمار، الخبرة، البنية التحتية، والربط اللوجستي، والتعاون الامني وفق قدرات مصرية هائلة في هذا القطاع.
ثم، وبعد دول الساحل وتشاد، تأتي نيجيريا ضمن أهم وجهات الجولة، فهي صديق استراتيجي مستدام ومتجد، في وقت تظل نيجيريا أكبر اقتصاد في إفريقيا، وأكبر دولة ديموغرافيًا، وبالتالي تمثل ركيزة لا غنى عنها في أي رؤية مصرية شاملة نحو غرب القارة. وزيارة وزير الخارجية المصري إلى نيجيريا، بعد سنوات من الفتور النسبي، تحمل رسالة واضحة مفادها أن القاهرة تسعى لتجديد علاقاتها مع أبوجا، وفتح آفاق التعاون الثنائي في الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، بل حتى الربط البحري عبر خليج غينيا، وبالتأكيد علي مستوي القدرات والتعاون العسكري والأمني والأستخباراتي.
إن الدبلوماسية الاقتصادية المصرية ليست مجرد أداة تنفيذية، بل أصبحت منهجًا مصريًا مستحدثًا، يُستخدم لتوطيد العلاقات الإفريقية، وضمان النفوذ الإيجابي في القارة، من خلال تصدير الخبرة المصرية في مشروعات الطرق، والإسكان، والكهرباء، والدواء، وفتح الأسواق الإفريقية أمام الصناعات المصرية.
وكذلك تشجيع الاستثمار المصري المباشر في الدول الإفريقية.،وتحفيز الربط البنكي والمالي لتسهيل التحويلات والتمويل ، إضافة إلي بناء مراكز تدريب ومراكز طبية ومؤسسات تعليمية مصرية في الدول الإفريقية.
ومع ثقل وأهمية الزيارة، لابد من التأكيد علي إستمرار الحاجة إلي ضرورة توسيع دور القطاع الخاص في رسم ملامح السياسة الخارجية الاقتصادية لمصر في إفريقيا، وتحويل الزيارات إلى مشروعات ملموسة بتوقيتات تنفيذ محددة، وبرامج تمويل قابلة للتطبيق.
وربما دراسة مقترح إنشاء وحدة دعم متابعة للمشروعات المصرية الإفريقية داخل وزارة الخارجية بالتنسيق مع وزارة التعاون الدولي ، إضافة إلي تسويق التجربة المصرية في بناء العاصمة الإدارية، والمشروعات القومية كخيار مطروح أمام الدول الإفريقية الباحثة عن نماذج ناجحة.
والعمل علي الاهتمام بالأمن الغذائي والمائي في دول الساحل باعتبارها بوابة للتأثير المصري الناعم والصلب معًا.
الجولة الأخيرة لوزير الخارجية المصري، المصحوبة بوفد اقتصادي نوعي، لا يمكن فصلها عن مجمل التحركات المصرية الإفريقية خلال السنوات الأخيرة. نحن أمام رؤية مصرية هادئة ولكن حاسمة، تتجلى ملامحها في رسم خارطة جديدة للنفوذ المصري في القارة، تقوم على التكامل بين السياسي والدبلوماسي، الاقتصادي والاستثماري، الأمني والتنموي.
مصر اليوم تتحدث بلغة جديدة في إفريقيا، لغة المشروعات لا الخطابات، والربط لا القطيعة، والشراكة لا التبعية. وهذا ما يجعلنا نؤمن أن مستقبل العلاقات المصرية-الإفريقية يكتب الآن بحروف من إرادة، وشراكة، ومصالح متبادلة.
إقرأ المزيد
وزير الخارجية المصري يتوجه إلى مالي رابع محطات جولته في غرب إفريقيا