أخبار عاجلةالرأي

الدكتور محمد تورشين يكتب : مقاربة واشنطن للأزمة السودانية.. حلول خاطئة تُفاقم المأزق السياسي

رغم ما بدا من اهتمام أميركي متأخر بالأزمة السودانية عقب اندلاع الحرب في أبريل 2023، فإن هذا الاهتمام لم ينبع من خصوصية الملف السوداني أو من شعور بمسؤولية أخلاقية أو إنسانية تجاه ما يحدث، بقدر ما عكس رغبة استراتيجية أميركية في تعزيز الحضور الجيوسياسي في القارة الإفريقية، ولا سيما في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية والمعادن الأرضية النادرة ذات الأهمية للصناعات التكنولوجية والدفاعية. هذا التوجه الاستراتيجي يفسر الانخراط الأميركي النشط في ملفات مثل الكونغو الديمقراطية، ولكنه في المقابل يسلط الضوء على السطحية والبرود النسبي في تعاطي واشنطن مع الأزمة السودانية، التي تعاملت معها باعتبارها ملفاً إقليمياً يمكن معالجته عبر وسطاء خارجيين.

لقد اعتمدت المقاربة الأميركية على دعم أطراف إقليمية وخارجية منضوية تحت ما يُعرف بـ”مجموعة الرباعية” (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، الإمارات)، وهي أطراف ترتبط مصالحها بشكل مباشر بتوازنات السلطة في السودان، وليس بمطالب الشعب السوداني أو طموحاته في بناء دولة مدنية عادلة.. هذا التوجه جعل التدخل الأميركي يتسم بالاختزال، مع تجاهل شبه تام للفاعلين المحليين الحقيقيين من قوى الثورة والمجتمع المدني والمكونات المحلية التي ظلت تعاني لعقود من التهميش البنيوي.

إن الأزمة السودانية، في جوهرها، ليست أزمة آنية أو ظرفية، بل هي نتاج تاريخ طويل من التراكمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تبدأ من فشل الدولة الاستعمارية في بناء مشروع وطني جامع، مروراً بإرث الثورة المهدية، وانتهاءً بتواطؤ النخب المركزية مع العسكر في تكريس دولة الإقصاء.. وقد أسهمت النخب السياسية، بما فيها تلك التي شاركت في الفترات الانتقالية بعد الثورات، في تفويت فرصة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، نتيجة لصراعاتها على السلطة وتغليب مصالحها الفئوية.

إن أي مقاربة جادة لحل الأزمة لا يمكن أن تنجح ما لم تعترف أولاً بجذور الأزمة، وتعمل على تفكيك البنية المركزية للدولة السودانية، وإعادة بنائها على أسس فيدرالية تضمن توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة، وتُعالج القضايا الحساسة المتعلقة بالعلاقة بين الدين والدولة، والهوية الوطنية، والمشاركة السياسية والتنمية المتوازنة. ولا بد أن تسبق ذلك عملية حقيقية للعدالة الانتقالية، تضع حداً للإفلات من العقاب وتُنصف الضحايا.

وفي قلب هذا التصور، تأتي الحاجة الملحة إلى إنهاء الدور السياسي للمؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع والحركات المسلحة، التي تحولت إلى أدوات للمناورة السياسية ومراكز للقوة خارج سلطة الدولة. الحل الجذري يمر عبر إبعاد هذه الأطراف من الفعل السياسي، وتنفيذ عملية شاملة لإعادة هيكلة ودمج هذه القوات ضمن مؤسسة عسكرية مهنية موحدة، خاضعة للمساءلة والمحاسبة وفق معايير الدولة الديمقراطية.

أما فيما يخص إدارة المرحلة الانتقالية، فإن تجربة الفترات السابقة أظهرت فشل النموذج القائم على التحالفات الهشة بين العسكريين وبعض القوى السياسية. وبالتالي، فإن صيغة الحكم القادمة يجب أن تعتمد على مجلس رئاسي مدني توافقي يمثل الأقاليم والمكونات الاجتماعية، ويقود عملية الانتقال بتفويض شعبي، مع إسناد إدارة الدولة لمؤسسات تكنوقراطية محايدة.

كما ينبغي أن تكون عملية الحوار الوطني شاملة وغير إقصائية، تُدار بآليات شفافة، وتضمن مشاركة كل القوى الحية في المجتمع السوداني، عدا المتورطين في جرائم وانتهاكات جسيمة ضد المدنيين. وهذا الحوار هو ما سيضع الأسس لمشروع وطني جديد قائم على الفيدرالية، العدالة، والمواطنة المتساوية.

إن أي محاولة لإعادة إنتاج التحالفات القديمة بين الجيش والدعم السريع وبعض القوى السياسية لن تفضي إلا إلى تسويات مؤقتة وهشة، سرعان ما تنفجر عند أول اختبار. أما الطريق نحو سلام دائم واستقرار حقيقي، فيبدأ بالاعتراف بفشل الماضي، وتبنّي رؤية جذرية تعيد تأسيس الدولة السودانية على قاعدة مدنية ديمقراطية، تضمن الحقوق، وتستجيب لتطلعات السودانيين في وطن آمن وعادل.

• الدكتور محمد تورشين .. باحث وكاتب في قضايا الصراعات والأمن في إفريقيا .

 

اقرأ المزيد

مصر تؤكد دعمها لسيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »