أخبار عاجلةالرأي

عمر مختار الأنصاري يكتب: المؤمن مرآة نفسه ثم أخيه .. تأملات في المحاسبة الذاتية وصقل القلب

إن المؤمن كائن تأملي يحمل في أعماقه مرآة إلهية تعكس حقيقة نفسه ونواياه وأعماله. هذه المرآة، التي هي ضميره وبصيرته، هبة من الله سبحانه، جعلها ميزانًا داخليًا يرى به الإنسان مواطن الخير والنقص في روحه، كما قال تعالى: “بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ” (القيامة: 14-15). فالمؤمن مرآة لنفسه ثم لأخيه، يتأمل فيها حال قلبه، ويسعى إلى تزكيته وتهذيبه بما يرضي الله، متمسكًا بحبل التقوى ومستنيرًا بنور الإيمان.

مرآة النفس: نقاء البصيرة وصفاء الرؤية

مرآة النفس هي الضمير الحي، وهي نور أودعه الله في قلب المؤمن ليرى حقيقة أفعاله ونواياه. إنها النفس اللوامة التي أقسم الله بها في قوله: “وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” (القيامة: 2)، وهي التي تلوم صاحبها على زلاته وتحثه على الإصلاح وتدعوه إلى العودة إلى الحق. عندما يكون القلب نقيًا ومتصلًا بالله، تكون هذه المرآة صافية وتعكس الحقيقة بلا تشويه، فيبصر المؤمن عيوبه بوضوح ويبصر مواطن الخلل في سلوكه ويبادر إلى إصلاحها بعزيمة صادقة.

هذا ما دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا”.

فالمحاسبة الذاتية لحظة وقوف أمام المرآة الروحية، يزن فيها المؤمن أعماله بميزان الشرع ويقيّم نواياه بمعيار الإخلاص.

في هذه اللحظة، تصبح المرآة أداة للتزكية والارتقاء. يرى المؤمن ما يسرّه من طاعات تُقربه إلى الله وما يحزنه من زلات تُبعده عن مرضاته، فيتداركها بالتوبة والاستغفار. هذا هو جوهر الجهاد الأكبر، جهاد النفس، الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يتطلب شجاعة لمواجهة الحقيقة وصبرًا على إصلاح النقائص وثباتًا في طريق الاستقامة.

صدأ المرآة: الذنوب وتأثيرها على البصيرة

لكن هذه المرآة الروحية، كشأن أي مرآة، عرضة للصدأ والتشويه؛ بالذنوب والمعاصي، كما وصفها الله تعالى: “كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (المطففين: 14)، تشبه الرين الذي يتراكم على القلب ويُغطي نقاءه ويُحجب صفاء بصيرته.

هذا الرين، وهو ثمرة الأعمال السيئة، يُشبه الصدأ الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء” (رواه الترمذي وابن ماجه).

كلما تراكمت الذنوب، أصبحت المرآة أقل وضوحًا وتضعف قدرة المؤمن على رؤية عيوبه وتُعتم بصيرته الداخلية.

في هذه الحالة، قد يلجأ المؤمن إلى مرايا الآخرين ويلهث وراء آرائهم ويتشبث بنصائحهم، لأن مرآته الذاتية قد أصابها الرين.

هذا الاعتماد المفرط قد يُضعف شخصيته ويجعله كمن فقد بوصلته الداخلية ويتيه بين آراء متضاربة ويبحث عن ذاته في عيون الغير.

هذا الرين لا يقتصر تأثيره على الجانب الروحي، بل يمتد إلى الشخصية والاستقلالية الفكرية، فيفقد المؤمن الثقة ببصيرته ويتخبط في قراراته ويصبح عاجزًا عن اتخاذ مواقف مستقلة تتسق مع إيمانه وقيمه.

مرآة الأخ: التكامل مع مرآة النفس

هنا يأتي دور الحديث النبوي الشريف: “المؤمن مرآة أخيه” (رواه أبو داود)، ليكمل الصورة الإيمانية. حين تُصاب مرآة النفس بالرين، يحتاج المؤمن إلى أخيه الصالح، الذي يكون مرآة صافية ويعكس له حاله بلطف وحكمة ومحبة.

هذا الأخ لا يكتفي بالنصيحة، بل يُذكّر أخاه بالله ويدعوه إلى التوبة ويُشجعه على استعادة نقاء مرآته الذاتية. لكن هذا لا يعني أن يُسلّم المؤمن عقله وقراره للآخرين، بل عليه أن يجعل نصح إخوانه وسيلة لإحياء بصيرته ولا يجعله بديلاً عنها.

فالاعتماد المفرط على مرايا الآخرين قد يُفقده استقلاليته ويجعله كالتابع الذي يفقد شخصيته الإيمانية.

إحياء المرآة: التوبة وصقل القلب

لكن اليأس ليس من شيم المؤمن. فكما تُصاب المرآة بالرين، فإنها قابلة للصقل والتنظيف. التوبة الصادقة والاستغفار الخالص والعمل الصالح هي السبيل لإعادة بريق المرآة.. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فإن تاب واستغفر صُقل قلبه” (رواه الترمذي وابن ماجه).

هذا الصقل يُعيد للمؤمن بصيرته ويستعيد به القدرة على رؤية نفسه بوضوح ويصبح أقل حاجة إلى الاعتماد على الآخرين، لأنه قد أصبح مرآة صافية لنفسه ويرى فيها الحقيقة ويسعى من خلالها إلى مرضاة الله.

التوبة ليست مجرد كلمات تُردد، بل هي عملية إصلاح عميقة تبدأ بالاعتراف بالزلل وتنتهي بالعزم على الاستقامة؛ إنها لحظة تجديد العهد مع الله، وينفض فيها المؤمن غبار الذنوب عن قلبه ويعود إلى نقاء الفطرة التي فطره الله عليها.

التوازن بين مرآة النفس ومرآة الأخ

إن التوازن بين مرآة النفس ومرآة الأخ هو سر الاستقامة الإيمانية.

المؤمن الذي يحافظ على نقاء مرآته الذاتية بالمحاسبة المستمرة والتوبة والعمل الصالح يكون أكثر قدرة على أن يكون مرآة صالحة لأخيه وينصحه بصدق ويرشده بحب إلى طريق الحق.

وفي الوقت ذاته، يبقى منفتحًا على نصح إخوانه ويدرك أن بصيرته قد تضعف أحيانًا تحت وطأة الهوى أو الغفلة أو الفتن.

هذا التوازن يحميه من التكبر الذي يُعميه عن عيوبه ومن التبعية العمياء التي تُفقده استقلاليته، فيبقى متماسكًا في إيمانه وقويًا في شخصيته.

خاتمة: دعوة إلى التأمل والصقل

إن فكرة “المؤمن مرآة نفسه ثم أخيه” دعوة إلى التأمل العميق في الذات، مستلهمة من نور القرآن وهدي السنة. مرآة النفس هبة إلهية، لكنها تحتاج إلى صيانة مستمرة بالطاعة والاستغفار والتزكية لتبقى صافية.

وحين يتراكم رين الذنوب، تصبح مرآة الأخ المؤمن نورًا يُضيء طريق الإصلاح، لكن الهدف الأسمى يبقى استعادة نقاء المرآة الذاتية.

فلنجعل مرايانا الداخلية صافية ونرى فيها الحقيقة دون مواربة ونسعى من خلالها إلى مرضاة الله؛ ولنكن مرايا صالحة لإخواننا وننصح بعطف ونُصلح بحكمة، حتى نكون جميعًا من عباد الله الصالحين، الذين قال فيهم ربهم: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ”(العنكبوت: 69).

 

* عمر مختار الأنصاري .. كاتب وسياسي من دولة النيجر.

 

اقرأ المزيد

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »