السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب : نيروبي .. تلقا الزمن غير ملامحنا

من نافذة الطائرة كانت الغيوم الكثيفة تطل على المدينة كعادتها في هذا الوقت من الصباح الباكر .. قطرات المطر تتجمع على زجاج النافذة وتسيل ثم يشتتها الهواء فتعود ثانية بإصرار كأدمع أرملة ملتاعة.. صوت المضيفة وهي تشرح اجراءات سلامة الهبوط تخالطه حركة دبت بين المسافرين استعداداً للوصول وأكواب يتم جمعها .. قائد الطائرة يصعد بها إلى أعلى ثم أسفل وصوت بلغة السواحيلي يعطيه تعليمات الهبوط بمطارها الدولي.
هذه المرة لن أجد مسؤول تشريفات السفارة فى استقبالى عند باب الطائرة لأخذى الى قاعة كبار الشخصيات متبوعاً بموظف الضيافة .. سأقوم بنفسى هذه المرة بتكملة الأجراءات الهجرية ، وقد حجزت مكانى بالفعل فى صف طويل وبطيء الحركة… ضابط جوازات المطار يستلم جوازى ويتفرس فيه ، وقد لاحظت تغير تعابير وجهه من الاستغراب إلى الإشفاق ، ثم رمقنى بنظرة وكأنه يغرس نصلا فى صدرى بسؤاله عن الحرب فى وطن رائع أضعناه وعدنا نلتمس الحياة خارج مياهه.. خفته بدلا عن توقيع ختم الدخول ان يكتب:
أهين جميع من باعوا الشباب
وفرطوا فى الحب..
ومن خفضوا الرؤوس وطأطأوا الهامات
واعتذروا عن الايام ..
أهين لك الرضا العام..
…هذه المدينة أعرفها ….
هبطت أرضها عدة مرات وقرأت عن ماضيها وحاضرها الكثير …مجد شعراؤنا نضال شعبها وتغنوا للظلال الزرق فى غاباتها وللقائد جومو … جمعت سفارتنا بها قمما دبلوماسية وسفراء أفذاذ…حضرنا مؤتمراتها ، ورافقنا الرئيس نميرى عام ١٩٨١ وهو يقود وفد السودان لاجتماع قمة منظمة الوحدة الأفريقية التى شارك فيها بعد انقطاع طويل الملك الحسن الثاني ملك المغرب ليعلن قبول بلاده لاجراء استفتاء في الصحراء الغربية. وفى فندق إنتركونتيننتال حيث كان يقيم أصر نميرى على دعوة مجموعتنا المرافقة له السفيرين عثمان السمحونى ويوسف مختار وشخصى الضعيف لتناول القهوة والشاى تكريما لما حققه السودان من نجاح وهو يترأس لجنة الحكماء الأفريقية بشأن الصحراء الغربية التى ضمت رؤساء نيجيريا ومالى وتنزانيا وغينيا كوناكري ، ولم يقطع أنس الجلسة إلا حضور رئيس احدى دول الجوار لجناح الرئيس وفاء لموعد سابق حيث أومأ نميرى للياور عبد الرحيم سعيد لتسليمه مظروفا أدركنا محتواه .
جئتها كذلك ضمن وفد السودان بقيادة الرئيس البشير فى قمة الايقادعام ١٩٩٦ التى تم خلالها تعديل الميثاق لمنح المنظمة سلطة حل النزاعات عوضا عن تفويض مكافحة الجفاف والتصحر… هبطنا مطارها مرة أخرى للتزود بالوقود للطائرة الرئاسية ونحن فى طريقنا لجنوب أفريقيا التى كانت قد ابتدرت تحركاً ثنائيا مشتركا مع ماليزيا كأحد الفرص الضائعة لحل مشكلة الجنوب .
زرتها فى سانحة أخرى مترأسا بعثة نادى المريخ لمنازلة فريق أوتالى الكينى بناكورو بحكم عضويتى بمجلس إدارة الاتحاد العام لكرة القدم السوداني عام ١٩٩٨ .. لعبت أنديتنا مع فرقها الكبرى كالفهود و قورماهيا وهزمناهم فى بطولات أندية إفريقيا وسيكافا .
اكتملت جلسات الأنس فى مجتمعاتنا بصناديق الشاى من مزارعها .. طالبناها بإعادة مثلث يسمى اليمى قبل أن يظهر فرس بحر غامض فى منتجع نيفاشا كنذير شؤم بذهاب جنوبنا الحبيب بأكمله ومعه المثلث .. أكلنا معهم ملح وملاح الايقاد ، ولاتزال اتصالاتنا بهم مستمرة ،ويتعاطف شعبهم مع السودان، وقالت وسائل إعلامهم القوية إن سقوط مرشح كينيا أودينقا فى مواجهة الجيبوتي محمود علي يوسف فى انتخابات مفوض الاتحاد الأفريقي درس مفيد لكينيا لمراجعة مواقفها….
قديما كان قطع خط الإستواء حصريا للمحبوبة فى تراثيات كابلى:
الموز روى قايم سوا
فاطرك ضوى
قطعوله خط الإستواء
ياناس قلبي بالنار انشوا..
لكن الجميع يقطعونه هذه الأيام حيث تكثر أعداد السودانيين الذين وفدوا لكينيا بعد الحرب ،ويقدر عددهم بستة آلاف …مستورى الحال ،يتواصلون ببعضهم فى المناسبات الاجتماعية المختلفة ويحمل كل منهم سودنا مصغراً بداخله ، وتتواجد كذلك نوافذ شراء وبيع الحاجيات ومطلوبات الذائقة الغذائية السودانية…
إذا كان للسياسة تقلباتها فان للتغيرات المناخية قولها أيضا فى كينيا كذلك إذ تتراجع أحجام غاباتها الشهيرة وتتدهور، وتحتجب الفراشات …وكأحد وسائل التصدى لذلك يهتمون بانشاء محميات ضخمة للفراشات لدورها فى الحفاظ علي الغابات ،وإثراء التنوع الأحيائي ، والحفاظ علي البيئة وعلى الأنواع النادرة والأصلية من الفراشات التى تلاحظ ندرتها وغيابها فى السواحل الكينية ، وكمصدر للتنمية المجتمعية والمحلية بديلا عن الاقتطاع الجائر للغابات وخلق فرص عمل في مجال تصدير واستيراد الشرانق وخاصة لمستوردين كبار بتركيا وبريطانيا.. فهل يسمعني فراش القاش؟ ..
مين علمك يافراش تعبد عيون القاش.. الخضرة فى الضفة وهمس النسيم الماش… باكر يعود القاش ترجع عيونو حنان وتطير تداعب الموج بجناح نسيم ريان …. مااحلى عودة الفراش….وعودة الوطن .
إقرأ المزيد :