أزمة الطائرة المسيّرة بين مالي والجزائر تصل إلي محكمة العدل الدولية

تتجه الأنظار منذ أسابيع إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، بعد أن أكدت رسميًا تلقيها طلبًا مقدمًا من مالي ضد الجزائر على خلفية تدمير طائرة عسكرية بدون طيار تابعة للجيش المالي في منطقة تينزاوتين بإقليم كيدال شمال البلاد. هذه الخطوة، التي جاءت بعد نفي جزائري متكرر لوجود أي دعوى، تمثل منعطفًا جديدًا في العلاقات المتوترة بين البلدين وتفتح الباب أمام تداعيات قانونية ودبلوماسية وأمنية أوسع على مستوى الساحل الأفريقي.
خلفية الأزمة: من الإنكار إلى التدويل
بدأت الأزمة ليلة 31 مارس 2025 عندما أعلنت باماكو أن قوات الدفاع الجزائرية أسقطت عمدًا طائرة استطلاع مسيّرة مسجلة بالرقم TZ-98D، كانت في مهمة مراقبة داخل الأراضي المالية. وبينما سارعت الجزائر إلى نفي الاتهام جملة وتفصيلًا، متحدثة عن “فبركة سياسية”، أصرت مالي على أن الحادثة تشكل عملًا عدوانيًا متعمدًا وانتهاكًا واضحًا للقانون الدولي.
وأمام تعثر أي قنوات دبلوماسية مباشرة، لجأت الحكومة المالية أولًا إلى مجلس الأمن الدولي برسالة رسمية وصفت فيها الحادثة بأنها “عدوان متعمد”، قبل أن ترفع الملف إلى محكمة العدل الدولية.
البعد القانوني: اختبار لمدى جدية المؤسسات الدولية
إحالة مالي للقضية إلى محكمة العدل الدولية لم تكن مجرد خطوة رمزية، بل تعكس محاولة لإضفاء طابع قانوني على الخلاف مع الجزائر، وتحويله من نزاع سياسي ثنائي إلى قضية ذات أبعاد دولية.
إلا أن القيود الإجرائية تظل قائمة، حيث أوضحت المحكمة أن موافقة الجزائر شرط أساسي للشروع في أي إجراءات قضائية. وهو ما يضع باماكو أمام معضلة: فبينما تحاول فرض معركة قانونية لإدانة الجزائر، يبقى القرار النهائي بيد الطرف الآخر. وفي حال رفض الجزائر الاعتراف باختصاص المحكمة، قد تتحول القضية إلى ورقة ضغط سياسي أكثر منها إجراءً قضائيًا فعليًا.
تداعيات دبلوماسية: من القطيعة إلى المواجهة الباردة
منذ اندلاع الأزمة، دخلت العلاقات بين مالي والجزائر مرحلة من التدهور السريع. فقد أغلقت الدولتان مجالهما الجوي المتبادل، واستدعتا السفراء، كما علقت الجزائر رحلاتها الجوية إلى باماكو بعد أن أعادت تشغيلها قبل أشهر قليلة فقط.
وتأتي هذه الأزمة في سياق توترات سابقة: الجزائر اتهمت مالي بخرق مجالها الجوي مرارًا في 2024، بينما ردت باماكو باتهام الجزائر بدعم جماعات مسلحة في شمال مالي. هذه الاتهامات المتبادلة تكشف عمق الأزمة بين البلدين، وتضعف الثقة الاستراتيجية التي طالما تحدثت عنها الأطراف الإقليمية.
البعد الإقليمي: ارتدادات على منطقة الساحل
تتجاوز الأزمة الثنائية بين الجزائر ومالي حدود البلدين، إذ تهدد بتفاقم الهشاشة الأمنية في الساحل الأفريقي، وهي منطقة تشهد أصلًا نشاطًا مكثفًا للجماعات المسلحة العابرة للحدود. فالجزائر تمثل قوة إقليمية كبرى لها دور محوري في الوساطة السياسية والأمنية، خصوصًا في مالي التي تعتمد جزئيًا على وساطتها منذ اتفاق السلام الموقع في الجزائر عام 2015 مع الحركات الأزوادية.
غير أن الأزمة الأخيرة تهدد هذا الدور، إذ باتت الجزائر نفسها في موضع اتهام، ما يضعف فرصها كوسيط محايد ويزيد من عزلة باماكو التي تقترب أكثر فأكثر من تحالفاتها الجديدة مع روسيا وبعض القوى الآسيوية.
البعد الدولي: اختبار لتوازنات القوى
على المستوى الدولي، تمثل القضية اختبارًا لتوازنات القوى داخل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. فمالي تحاول استدعاء دعم دولي من خلال الاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة وقرار الجمعية العامة رقم 3314 الخاص بتعريف العدوان، بينما تسعى الجزائر إلى إغلاق الملف قانونيًا والسيطرة عليه دبلوماسيًا.
وقد يجد مجلس الأمن نفسه أمام ملف معقد، خصوصًا في ظل تباين مواقف القوى الكبرى. فبينما قد تدفع بعض الدول الغربية نحو ضبط الأزمة ومنع التصعيد، قد ترى موسكو وبكين فيها فرصة لتوسيع نفوذهما في المنطقة، خاصة أن مالي أصبحت حليفًا أقرب إلى روسيا بعد انسحاب القوات الفرنسية من أراضيها.
في العموم تكشف أزمة الطائرة المسيّرة بين مالي والجزائر عن هشاشة العلاقات الثنائية، وتعكس في الوقت ذاته تعقيدات التوازنات الإقليمية في منطقة الساحل. وبينما تواصل مالي الضغط عبر المسارات القانونية والدبلوماسية، يبدو أن الحل لا يزال بعيدًا، خصوصًا إذا تمسكت الجزائر بموقفها الرافض لأي إجراءات أمام محكمة العدل الدولية.
ويبقى السؤال المطروح: هل ستظل الأزمة في حدودها الدبلوماسية والقانونية، أم أنها مرشحة للتصعيد الأمني بما يهدد استقرار المنطقة برمتها؟