الصحفية التونسية كريمة دغراش تكتب : السودان.. وطن ينهار في زمن اللا مسؤولية الدولية

في قلب القارة السمراء التي يبدو أن لعنة الحروب والصراعات تأبى أن تفارقها، يتهاوى السودان قطعةً تلو الأخرى أمام أعين عالم اكتفى بمقعد المتفرج، هناك في تلك الأرض الغنية بثرواتها كما ثقافتها وحضارتها انهار وطنٌ كان يمكن أن يكون جسراً بين العرب وإفريقيا، ليصبح مرآةً لفشل الإنسانية.
منذ اندلاع الحرب في عام 2023 ، لم يعد في البلاد سوى الخراب: مدن محروقة، وملايين من السودانيين مشرّدين، وأجيال كاملة تعيش في العراء على أنقاض دولة لم تعد تملك من مقومات الدولة سوى الاسم الذي قد لا يستطيع الصمود طولا قبل أن يمحى من الجغرافيا.
إن المأساة في السودان ليست مجرّد نزاعٍ على السلطة، بل هي انهيارٌ شامل للدولة ولبلد قد ينتهي ممزقا ومقسما تحت ذرائع واهية، فالخرطوم التي كانت ذات يوم عاصمة العرب في وادي النيل، تحوّلت اليوم إلى أطلالٍ تتقاسمها الفصائل، أما دارفور الإقليم الذي يبدو أن ثرواته الكبيرة تسيل لعاب الجميع، فيعيش سكانه مأساة متكرّرة بوحشية مضاعفة، وأما كردفان فتترنّح بين الجوع والحصار، وبات الفرار منها حلم الآلاف من أجل البقاء على قيد الحياة.
اليوم في السودان لا ماء ولا دواء ولا كهرباء، هناك تحولت المستشفيات إلى خرائب يختبئ فيها المرضى من القصف أكثر مما يطلبون العلاج،هناك يعيش ملايين السودانيين على فتات المساعدات التي لا تصل إلا نادراً، فيما يتحوّل النزوح الجماعي إلى أكبر حركة لجوء عرفتها القارة منذ عقود.
لكن، الأخطر من كل ذلك هو أن العالم يبدو وكأنه طبّع مع هذا المشهد ومع هذه المأساة المنسية التي يجمع الكل على أنها واحدة من أبشع وأفظع مآسي التاريخ الحديث وكأن الأمر لا يستحق العجلة، مكتفياً ببيانات الإدانة المكتوبة على مهل بلغةٍ خشبية باهتة، وبوساطات تُدار بحساباتٍ ضيقة لقوى إقليمية حوّلت المدنيين لوقود لهذه الحرب.
إن الأمر لا يتطلب الكثير من العناء لفهم أو معرفة أسباب ما يحدث في السودان، فأسباب هذا الانهيار واضحة لكل من يتابع المشهد عن قرب: إنها حرب على شرعية غير مستحقة وعلى الموارد وخصوصا على الثروات في دولة فقدت توازنها منذ سنوات الانتقال الهشّ بعد سقوط نظام البشير.
إن غياب الثقة بين القوى العسكرية والمدنية جعل كل طرف يرى في الآخر تهديداً لوجوده، لا شريكاً في بناء الوطن ويرى أنه الأحق بالحكم.. ومع غياب رؤية وطنية جامعة، ومع تدفّق السلاح والدعم الخارجي، تحوّل السودان إلى ساحة لتصفية الحسابات، لا ميلادا للدولة التي حلُم بها أبناؤه ذات يوم عندما خرجوا للشوارع قبل سنوات لإسقاط نظام استبدادي ظالم جثم على أنفاسهم لسنوات طويلة.
إن المفارقة الكبرى اليوم أن كل طرفٍ في هذا الصراع يتحدث باسم “الوطن”، بينما يتآكل الوطن بين أيدي الجميع، فلا الجيش حافظ على مؤسسات الدولة، ولا الدعم السريع استطاع أن يصبح قوة وطنية مسؤولة.
في ظل كل هذا فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو:” ماذا ينبغي أن يُفعل الآن لإنهاء هذه المأساة أو تخفيفها؟”
أولاً: وقفٌ فوريّ وشامل لإطلاق النار، تحت إشراف دولي محايد، مع فتح ممرات إنسانية آمنة للوصول إلى المدنيين بعيدا عن أي شروط أو مساومات.
ثانياً: تعبئةٌ دولية عاجلة لإغاثة المدنيين، مع الحرص على تعديل آليات التوزيع لتجاوز ما يُعرقل وصول المساعدات.
ثالثاً: إطلاق مسارٍ سياسي جديد يحاول إعادة بناء مؤسسات الدولة، وفق خارطة طريق واضحة يُشارك فيها الجميع دون إقصاء لأي طرف.
رابعاً: الذهاب نحو مصالحة وطنية يطلق قبلها مسار للمحاسبة والمساءلة حول الجرائم المرتكبة لا يستثني أحداً.
خامساً: إشراك دول الجوار والمنظمات الإقليمية بجدّية في وساطةٍ محايدة تضع أولا مصلحة السودان والسودانيين قبل مصالحها.
إن المأساة السودانية ليست قدراً، بقدر ما هي نتيجة، للتواطؤ والصمت، وتراجع الضمير الإنساني، وفي اعتقادنا لقد آن لهذا العالم أن يسمع صرخة هذا البلد المنكوب، وأن يدرك أن تركه ينهار ليس خسارة لأهله فقط، بل سقوط أخلاقي للإنسانية جمعاء، فما يحدث في السودان ليس فقط تحدّياً إنسانياً، بقدر ما هو اختبار لمدى قدرة النظام الدولي على احترام المواثيق الدولية.
* نقلا عن صحيفة الصحافة اليوم التونسية .
اقرأ المزيد
المفكر السوداني الدكتور حيدر إبراهيم يطلق مقترح الميثاق القومي للسلام والتنمية




