كينيا: لجنة تحقيق برلمانية تتهم جنود بريطانيين بإرتكاب عمليات اغتصاب واعتداء جنسي والإضرار بالبيئة

في كينيا اتهمت لجنة تحقيق برلمانية كينية جنودا بريطانيين متمركزين في البلاد بارتكاب اعتداءات جنسية متكررة وممارسات تدريب غير آمنة وانتهاكات بيئية، قائلة إن هذا السلوك جعل القوات الأجنبية تشعر وكأنها “قوة احتلال”.
يعكس التقرير، الذي أصدرته هذا الأسبوع لجنة الدفاع والعلاقات الخارجية الكينية، الغضب المتزايد إزاء سلوك وحدة تدريب الجيش البريطاني في كينيا (باتوك)، التي تستضيف آلاف الجنود البريطانيين كل عام.
وقالت وزارة الدفاع البريطانية لرويترز إنها “تأسف بشدة” للمشكلات المرتبطة بوجودها العسكري وأضافت أنها مستعدة للتحقيق في أي مزاعم جديدة بمجرد تقديم الأدلة.
ويعتبر الوجود العسكري البريطاني في كينيا ليس حديثاً، فهو جذر يعود إلى الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستقلال، حيث تحول من قوة احتلال إلى “شريك دفاعي” بموجب سلسلة من اتفاقيات التعاون، معسكرات التدريب الشاسعة في مناطق مثل نانيوكي وأروشا (في تنزانيا المجاورة تحت إشراف باتوك) هي إرث استراتيجي لهذه العلاقة.
القوات البريطانية تأتي للتدرب على تضاريس وطقس مشابهين لبيئات العمليات في الشرق الأوسط وأفريقيا، بتكلفة أقل بكثير مقارنة بالتدريب داخل بريطانيا.

تقرير اللجنة البرلمانية لم يكتف بذكر حوادث فردية، بل رسم صورة لـ “نمط مقلق”systemic issues: الاعتداءات الجنسية والاستغلال: الأمر لا يقتصر على قضية أجنيس وانجيرو المأساوية (2012)، والتي مثلت نقطة التحول في الرأي العام الكيني, جلسات الاستماع في المجتمعات المحلية كشفت عن شكاوى متراكمة لسنوات عن اغتصاب وهجمات جنسية وترك أطفال من علاقات غير شرعية. الإشكالية هنا هي بيئة الإفلات من العقاب المُتصورة، حيث يشعر الضحايا بعدم القدرة على محاسبة جنود أجانب يتمتعون بحصانة ديبلوماسية أو قضائية معقدة في كثير من الأحيان. سياسة “عدم التسامح مطلقاً” التي تعلنها باتوك تتصادم مع تصور مجتمعي بعدم فعالية آليات التبليغ والتحقيق.

أما الاستهتار بالسلامة والبيئة فهذه نقطة بالغة الأهمية من الناحية العسكرية والتنموية: إزالة الذخائر غير المنفجرة (UXO)، وكذلك اتهام بتوظيف عمال كينيين محليين لإزالة هذه المخاطر المميتة دون معدات سلامة مناسبة هو انتهاك صارخ لأبسط بروتوكولات التدريب الدولية وإنسانية العمل، وهو يظهر تجاهلاً فادحاً لحياة المدنيين الذين يعتمدون على القاعدة كفرصة عمل.
أما الأضرار البيئية فيتمثل في التدريب العسكري المكثف، خاصة للمدرعات والمدفعية، يدمر الغطاء النباتي ويثري التربة، التقرير يشير إلى أدلة على إلقاء نفايات سامة (مثل زيوت المحركات، مواد كيميائية) مما يلوث مصادر المياه ويضر بالثروة الحيوانية، التي تمثل عصب الحياة
للمجتمعات الرعوية المحيوية مثل السامبورو والماساي. هذا يهدد الأمن الغذائي وسبل العيش.
قضية وانجيرو: اختبار للمساءلة والقضاء

قضية مقتل أجنيس وانجيرو هي القضية الرمزية، فقد اعتقال الجندي البريطاني المشتبه به، روبرت بوركيس، في المملكة المتحدة بعد أكثر من عقد، يأتي نتيجة ضغط هائل من الأسرة والنشطاء والإعلام الكيني، وهو يضع آليات التسليم القضائي بين البلدين تحت المجهر، فنجاح أو فشل إجراءات تسليمه إلى كينيا للمحاكمة سيكون مؤشراً حاسماً على جدية البريطانيين في معالجة الماضي ومعادلة الشراكة، ونفيه للتهمة يعني أن المعركة القضائية ستكون طويلة.
هنا تكمن النقطة المحورية، فاتفاقية الدفاع الحالية (2021) تنتهي في 2024. إصدار هذا التقرير الانتقادي الآن هو حركة تفاوضية ذكية من البرلمان الكيني.
أوراق الضغط الكينية: التقرير يقدم للجانب الكيني أوراق ضغط قوية للمفاوضات القادمة:
المطالبة بصلاحيات قضائية أكبر: قد تدفع نيروبي للحصول على صلاحية محاكمة الجنود المتهمين بجرائم ضد المدنيين الكينيين في المحاكم الكينية، أو إنشاء محاكم مختلطة.
فرض رسوم وضرائب أعلى: المطالبة بزيادة العوائد المالية من الوجود البريطاني كـ “تعويض بيئي” واقتصادي.
· تشديد البروتوكولات: فرض قيود بيئية وإجراءات سلامة أكثر صرامة، ومراقبة مستقلة.
· إشراك مجتمعي إلزامي: مطالبة باتوك بإنشاء قنوات شكوى فعالة ومحمية للمجتمعات المحلية.
· المصالح البريطانية: بريطانيا تحتاج إلى هذه القواعد بشكل حيوي. فهي بوابة إستراتيجية لعملياتها في القرن الأفريقي وجنوب السودان وأي أزمات مستقبلية في المنطقة. فقدانها أو تقييدها سيشكل ضربة لاستراتيجيتها العسكرية العالمية وقدرتها على إسقاط القوة بسرعة.
ويرى خبراء أن هذه الأزمة هي عرض لاختلال عميق في نموذج الشراكة الأمنية. لقد تجاوزت العلاقة مرحلة “المانح-المتلقّي”. كينيا اليوم قوة إقليمية رئيسية، وشعبها وممثليها لم يعودوا يقبلون بعلاقة غير متوازنة تُدار من خلف الأسوار.
الرد البريطاني الرسمي (“نأسف” و”نستعد للتحقيق”) هو رد نمطي لم يعد كافياً. المجتمع الكيني يطلب مساءلة ملموسة وعدالة واعترافاً بكرامة مواطنيه وبيئته.
المفاوضات القادمة ستحدد ما إذا كان هذا الوجود العسكري الأجنبي سيتطور إلى شراكة حقيقية تحترم السيادة والقوانين الكينية، أم سيواصل العمل كـ “دولة داخل دولة”، مما يغذي الاستياء ويهدد الاستقرار الطويل الأمد للتعاون نفسه. كينيا تملك أوراقاً قوية، والكرة الآن في ملعب لندن لإثبات أن شراكتها مع أفريقيا تقوم على الاحترام المتبادل وليس على امتيازات الماضي.





