رامي زهدي يكتب : عام 2026.. القارة الإفريقية بين استدامة الصراع وإعادة تعريف الدولة والأمن
بين إرث الصراعات المزمنة وإمكانيات الحل ومع مطلع العام 2026، تبدو القارة الإفريقية واقفة على حافة زمن سياسي وأمني جديد، لا هو امتداد ميكانيكي لما سبقه، ولا قطيعة كاملة معه، فالصراعات طويلة الأمد التي استنزفت الدول والمجتمعات لعقود لم تعد مجرد نزاعات محلية معزولة، بل تحولت إلى منظومات أزمات متداخلة، تتقاطع فيها الهويات والموارد والحدود والاقتصاد، وتتشابك فيها الحسابات الإقليمية والدولية، في عالم يشهد بدوره إعادة توزيع للقوة والنفوذ.
إفريقيا اليوم لا تعيش أزمات متفرقة، بل تعيش أزمة نموذج، أزمة دولة، وأزمة إدارة تنوع، وأزمة تنمية غير متوازنة، وأزمة تدخل خارجي بأدوات جديدة أكثر نعومة وخطورة.
الحرب السودانية تمثل النموذج الأكثر قسوة لهذا المشهد، فالسودان الذي كان مرشحا ليكون جسرا بين شمال القارة ووسطها وشرقها، تحول إلى ساحة صراع مفتوح يعيد تعريف مفهوم الدولة ذاته.
الحرب لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل أصبحت صراعا على الجغرافيا والموارد والهوية، مع تفكك شبه كامل لمؤسسات الحكم، وانهيار اقتصادي يضع أكثر من 70 بالمئة من السكان تحت خط الفقر، ونزوح داخلي وخارجي تجاوز 8 ملايين شخص، وهو الرقم الأعلى عالميا خلال عامين فقط، الموقف الحالي يوحي بحرب استنزاف طويلة، تتغذى على شبكات مصالح داخلية وداعمين إقليميين، بينما تبقى فرص الحل مرهونة بإعادة بناء مسار سياسي شامل لا يقصي أحدا، مع دور مركزي لدول الجوار، وعلى رأسها مصر، في منع سيناريو التقسيم وحماية الأمن المائي والإقليمي.
في ليبيا، لا تزال الأزمة تراوح مكانها، رغم انخفاض حدة المواجهات العسكرية المباشرة، الانقسام السياسي والمؤسسي مستمر، والاقتصاد الريعي النفطي يدار بمنطق توزيع الغنائم لا بمنطق الدولة، مع وجود أكثر من 20 ألف عنصر أجنبي ومرتزق وفق تقديرات أممية، ليبيا في 2026 ليست على حافة انفجار شامل، لكنها أيضا ليست على طريق استقرار حقيقي، بل في حالة سيولة سياسية تجعلها قابلة للاشتعال مع أي تغير إقليمي، أفق الحل يظل مرتبطا بتوحيد المؤسسات، وإخراج القوات الأجنبية، وبناء توافق ليبي ليبي، تدعمه دول الجوار دون وصاية أو توظيف.
إثيوبيا تمثل عقدة مركزية في معادلة القرن الإفريقي، مشاكل القوميات والعرقيات، من تيجراي إلى أورومو وأمهرا، لم تحل جذريا، بل جرى تجميدها باتفاقات هشة، الدولة الإثيوبية تواجه تحديا وجوديا يتمثل في كيفية إدارة تنوعها دون تفكك، وفي كيفية التوفيق بين طموحات إقليمية وسياسات داخلية مأزومة، ثم الصراعات الإثيوبية المباشرة وغير المباشرة مع الصومال وجيبوتي وإريتريا وكينيا، سواء بشكل مباشر أو عبر توترات حدودية ومائية وموانئية، تعكس سعي أديس أبابا لإعادة تعريف موقعها الجيوسياسي، خصوصا في ما يتعلق بالوصول إلى البحر، هذا السعي يفتح الباب أمام توترات أوسع تمس أمن البحر الأحمر، الذي يمر عبره نحو 12 بالمئة من التجارة العالمية وقرابة 30 بالمئة من تجارة الحاويات، ما يجعل أي اضطراب فيه مسألة أمن دولي لا إقليمي فقط.
الأمن المائي لدول حوض النيل، خاصة دولتي المصب مصر والسودان، يظل أحد أخطر ملفات الصراع غير المسلح في القارة، السد الإثيوبي لم يعد مجرد مشروع تنموي أو خلاف فني، بل أصبح أداة ضغط سياسي واستراتيجي، في ظل غياب اتفاق قانوني ملزم، ومع تغيرات مناخية تقلل من متوسط نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 500 متر مكعب سنويا في مصر، يدخل الملف مرحلة أكثر حساسية، تتطلب إدارة دقيقة تجمع بين الدبلوماسية الصلبة والمرنة، وتعزيز التعاون الإقليمي، وربط التنمية بالأمن المشترك.
في شمال القارة، يظل الصراع بين الجزائر والمغرب حول إقليم الصحراء أحد أطول النزاعات المجمدة في إفريقيا، ورغم غياب المواجهة العسكرية المباشرة، فإن سباق التسلح، وقطع العلاقات الدبلوماسية، واستقطاب الحلفاء الدوليين، يحول النزاع إلى عامل عدم استقرار إقليمي، يعطل التكامل المغاربي الذي يخسر بسببه الإقليم ما يقدر بنحو 2 إلى 3 بالمئة من ناتجه المحلي سنويا.
شرق الكونغو الديمقراطية يقدم صورة أخرى لصراعات الهوية والموارد، حركة M23 الانفصالية ليست سوى عرض لمرض أعمق يتمثل في ضعف الدولة المركزية، وتداخل المصالح الإقليمية، خاصة مع رواندا وأوغندا، المنطقة الغنية بالمعادن الاستراتيجية، التي تدخل في صناعات التكنولوجيا والطاقة النظيفة، تتحول إلى ساحة تنافس شرس، بينما يدفع المدنيون الثمن، مع أكثر من 6 ملايين نازح داخلي.
في شرق القارة، تتصاعد مخاطر الجماعات الإرهابية في مناطق التماس بين أوغندا وتنزانيا، حيث تسعى تنظيمات مرتبطة بداعش إلى استغلال الهشاشة الاقتصادية والفراغات الأمنية، جنوب السودان بدوره لا يزال عالقا في أزمة سياسية مزمنة، رغم اتفاقات السلام، مع اقتصاد يعتمد بنسبة تفوق 90 بالمئة على النفط، ومؤسسات دولة لم تكتمل بعد.
أما دول الساحل، من تشاد إلى النيجر ومالي وبوركينا فاسو، تمثل بؤرة الصراع الأكثر تعقيدا، الانقلابات العسكرية المتتالية لم تؤد إلى استقرار، بل زادت من عزلة هذه الدول، في وقت تتوسع فيه الجماعات الإرهابية، حيث تشير تقديرات إلى أن منطقة الساحل باتت مسؤولة عن أكثر من 40 بالمئة من ضحايا الإرهاب عالميا خلال العامين الأخيرين، غياب التنمية، وتغير المناخ، وتراجع الدعم الدولي التقليدي، كلها عوامل تدفع نحو سيناريوهات أكثر قتامة إذا لم تتغير مقاربات الحكم والأمن.
وفي نيجيريا، عملاق القارة السكاني والاقتصادي، تواجه الدولة تحديات مركبة، من بوكو حرام في الشمال الشرقي، إلى العصابات الإجرامية في الشمال الغربي، مع خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات سنويا.
غانا، التي كانت تعد واحة استقرار، تشهد تصاعدا في نشاط العصابات، ما ينذر بتحولات مقلقة في غرب القارة، خاصة مع تكرار الانقلابات في أكثر من دولة، ووصول عدوى عدم الاستقرار حتى إلى مدغشقر في أقصي جنوب شرق القارة.
وفي الجنوب، لا تخلو الصورة من توترات اقتصادية وسياسية، حيث تواجه جنوب إفريقيا تحديات داخلية حادة، من بطالة تتجاوز 30 بالمئة، وأزمات طاقة، وتوترات مع دول الجوار حول الهجرة والموارد، ما يضعف دورها القيادي الإقليمي.
قراءة التوقعات مع مطلع 2026 تشير إلى أن معظم هذه الصراعات لن تجد حلولا سريعة أو كاملة، لكنها قد تشهد تحولات في الشكل والأدوات، سنرى صراعات أقل كثافة عسكرية في بعض المناطق، وأكثر تعقيدا من حيث الاقتصاد والموارد والمعلومات، أفق الحل لا يكمن في مسكنات أمنية أو تسويات فوقية، بل في إعادة بناء الدولة الوطنية، وتعزيز التكامل الإقليمي، وربط الأمن بالتنمية، وإعادة الاعتبار للسياسة كفن لإدارة التوازنات لا كأداة إقصاء،وهنا يبرز الدور المصري، ليس فقط كفاعل إقليمي، بل كحامل لرؤية تقوم على دعم الاستقرار، واحترام سيادة الدول، وبناء شراكات تنموية حقيقية، لأن أمن إفريقيا في النهاية ليس ملفا خارجيا بالنسبة لمصر، بل امتداد مباشر لأمنها القومي ومجالها الحيوي.
اقرأ المزيد
السودان: تظاهرات حاشدة في مدن سودانية دعمًا للجيش.. قتيل و3 جرحى بقصف مسيّرة للدعم السريع على الأبيض




