سفير دكتور محمد حجازي يكتب : العلاقات المصرية السورية ٢٠٢٦.. بين عواطف التاريخ وثوابت الدولة

مع اقتراب عام 2026، يثور تساؤل مشروع في الأوساط السياسية والإعلامية حول ما إذا كانت العلاقات بين مصر وسوريا تتجه نحو عودة حقيقية وشاملة، أم أن ما نشهده يظل في إطار تقارب محدود تحكمه حسابات الحذر وتعقيدات الإقليم.
الحقيقة أن قراءة المسار المصري-السوري تستوجب الابتعاد عن منطق القطيعة أو التطبيع الكامل، والاقتراب أكثر من فهم منهج الدولة المصرية في إدارة علاقاتها الإقليمية، وهو منهج يقوم دوما على التدرج المدروس والمتأني ، وتغليب اعتبارات الأمن القومي، وربط الانفتاح السياسي بمدى استقرار الدولة المقابلة وقدرتها على العمل المؤسسي ورعاية مكونات شعبها ، والانتماء لقيم الاقليم ومصالحة القومية.
كما لا يمكن القول إن العلاقات بين القاهرة ودمشق متباعدة أو مقطوعة؛ فالتواصل السياسي قائم، والموقف المصري من وحدة الأراضي السورية ورفض تفكيك الدولة كان ثابتًا منذ اندلاع الأزمة ومشاهدته سوريا من تحولات، غير أن هذا التواصل لم يرتق بعد إلى مستوى التفاعل والتواصل او الشراكة السياسية أو التنسيق الاستراتيجي الكامل، وهو أمر مفهوم في ظل استمرار التعقيدات الأمنية والسياسية داخل سوريا، وصلاتها الاقليمية والدولية.
بكل تأكيد مصر لا تعارض عودة سوريا إلى محيطها العربي، بل كانت من أوائل الدول التي نادت بعدم إقصائها، لكنها في الوقت ذاته تتحفظ على القفز إلى الأمام دون ضمانات حقيقية تتعلق بالاستقرار الداخلي، وبطبيعة الدور الإقليمي الذي ستلعبه دمشق في المرحلة المقبلة.
وبالإضافة للانفتاح الخليجي علي سوريا وروابطها الأعمق مع تركيا وقطر ، يشهد المشهد الدولي مؤخرًا مؤشرات على انفتاح أمريكي متزايد تجاه سوريا، سواء عبر تخفيف القيود خاصة إلغاء قانون قيصر ، أو فتح قنوات تواصل أمنية وسياسية محدودة. فهذة التطورات قد تسهم في تقليص عزلة دمشق الدولية، وهو ما يخفف بدوره من كلفة الانفتاح العربي عليها. لكن من الخطأ افتراض أن القاهرة تربط خياراتها الاستراتيجية بالموقف الأمريكي ، السياسة الخارجية المصرية لطالما اتسمت بالاستقلالية والقدرة على الموازنة بين القوى الكبرى، ومن ثم فإن التقارب السوري-الأمريكي قد يكون عاملًا مساعدًا، لكنه ليس عاملًا حاسمًا في تطوير العلاقات المصرية-السورية.
فالأهم بالنسبة لمصر هو ما إذا كان هذا الانفتاح يسهم في تعزيز منطق الدولة داخل سوريا، وضبط السلاح، وتقليص نفوذ الفواعل غير الرسمية، وهي اعتبارات تتصدر أولويات الأمن القومي المصري.
فهناك نقاط عالقة لا يمكن تجاهلها وثمة ملفات لا تزال تؤثر على وتيرة التقارب، في مقدمتها غياب وضوح كامل بشأن مسار الاستقرار السياسي والأمني في سوريا ، وتشابك العلاقات السورية مع قوى إقليمية ودولية بما يفرض على القاهرة حسابات دقيقة في إدارة التوازنات.
علاوة علي عدم نضج الأطر الاقتصادية ومخططات إعادة الإعمار بسوريا بما قد يسمح بانتقال سريع إلى تعاون اقتصادي واسع، وهناك الحاجة إلى بناء ثقة استراتيجية متبادلة تتجاوز المجاملات السياسية إلى خطوات عملية، واضيف أن هناك بعد تاريخي عاطفي يستوجب بذل جهد أكبر من القيادة السورية تجاه مصر وقيادتها السياسية للتأكيد أن لمصر مكانة لاتضاهي في سلم أوليات سوريا الجديدة تجاة المنطقة.
لذا، فإن المؤشرات الراهنة ترجح أن يكون عام 2026 عامًا لتثبيت التقارب المصري-السوري في صورته الهادئة والمتدرجة، لا عامًا لعودة كاملة أو تحالف استراتيجي شامل، فهو تقارب يقوم على التنسيق الانتقائي والمتدرج، ودعم الحلول السياسية، والحفاظ على قنوات الاتصال المفتوحة، دون الاندفاع إلى التزامات تتجاوز معطيات الواقع الذي يعبر عن التطلع لبناء علاقات متأنية صحية سليمة لا اندفاع عاطفي يحمل في جوهرة مخاوف وانعدام الثقة والتحفظ.
ومما تقدم يمكن القول بأن العلاقة بين مصر وسوريا لم تعد تُقاس فقط بتاريخها المشترك أو بالمواقف المبدئية الثابتة، بل أصبحت بحكم التحولات العميقة في الإقليم ، مرهونة بدرجة كبيرة بالخيارات الإقليمية التي ستتبناها دمشق في المرحلة المقبلة، وبمدى انسجام هذه الخيارات مع منطق الدولة الوطنية العربية الذي تتبناه القاهرة.
فمع اقتراب سوريا من مرحلة ما بعد الصراع المفتوح، تجد نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي، لا يحدد فقط شكل دورها الإقليمي، بل يرسم أيضًا طبيعة علاقاتها مع القوى العربية المركزية، وفي مقدمتها مصر، وخيارات سوريا واضحة اهمها وأقربها لعقل مصر ودول المنطقة هو خيار العودة إلى العمق العربي، حيث يُعد هذا الخيار الأكثر توافقًا مع الرؤية المصرية، فعودة سوريا إلى محيطها العربي بوصفها دولة مستقلة القرار، منضبطة السلوك، وغير مصدّرة للأزمات، ستفتح الباب أمام تطوير العلاقات السياسية مع القاهرة، وبدء تنسيق أمني منشود ومتوقع في ملفات مكافحة الإرهاب ، وتاكيد علي امكانية مشاركة مصرية وعربية فاعلة في إعادة الإعمار ، وكلها عوامل ستسهم في استعادة التوازن داخل النظام الإقليمي العربي، لقيمة سوريا واهميتها الجيواستراتيجية في المنطقة.
ومصر تنظر إذا إلى هذا المسار وخيار العودة والالتحام مع حاضنتها العربية ، هو الأساس باعتباره المدخل الطبيعي لاستعادة سوريا مكانتها، شريطة أن يقترن بخطوات عملية تعزز من سيادة الدولة السورية، وتحد من أدوار الفواعل والتنظيمات المسلحة غير الرسمية، وتعيد الاعتبار للمؤسسات الدستورية واحترام المرجعيات الدينيين والمكونات الطائفية للمجتمع السوري.
أما الخيار الآخر والذي ترفضه مصر فهو خيار الارتهان لمحاور إقليمية غير عربية، فهو السيناريو الأكثر إشكالية في الحسابات المصرية ويتمثل في استمرار سوريا ضمن محاور إقليمية تتجاوز الإطار العربي، بما يحولها إلى ساحة لتقاطعات النفوذ وفرضها واتباع أجندات مناوئة ، بدلًا من أن تكون فاعلًا ايجابيًا موثوق بة ومستقلًا.
وتجدر الاشارة هنا أن مصر في هذا السياق لا تنطلق من موقف عدائي تجاه أي طرف دولي أو إقليمي ، لكنها تتحفظ على أن يكون القرار السوري مرتهنًا أو مندمجًا بالكامل في حسابات غير عربية ،وهذا الخيار، إن استمر، لا يؤدي بالضرورة إلى قطيعة مع مصر، لكنه يبقي العلاقة في حدودها الدنيا، ويمنع انتقالها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية أو التنسيق العميق.
وهناك خيار التوازن الاستراتيجي المتعدد، وهو الأكثر واقعية على المدى المنظور، ويقوم على الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الدولية والإقليمية دون الانخراط الكامل في أي محور، مع فتح المجال لعودة تدريجية إلى الفضاء العربي، وهذا المسار، إذا أُدير بقدر كافٍ من الاستقلالية، يمكن أن يشكل أرضية مشتركة مع القاهرة، التي تنتهج بدورها سياسة التوازن وعدم الاستقطاب، وترفض منطق الاصطفافات الحادة، غير أن نجاح هذا الخيار يتطلب من دمشق وضوحًا في أولوياتها، وضبطًا لإيقاع تحالفاتها ، وقدرة على الفصل بين الشراكات الدولية والسيادة الوطنية، واعتبارات الامن الاقليمي ،
لذا يمكن القول إن طبيعة العلاقة المصرية-السورية ستكون انعكاسًا مباشرًا للخيار الإقليمي الذي ستتبناه دمشق، فكلما اقتربت سوريا من عمقها العربي، اقتربت من القاهرة، وكلما تعمّق اندماجها في محاور إقليمية مغلقة، تراجعت فرص بناء علاقة استراتيجية مع مصر، أما خيار التوازن، فيبقي الباب مفتوحًا لتقارب تدريجي، دون قفزات مفاجئة،
ومصر لا تسعى إلى فرض خيارات على سوريا، لكنها تراقب بدقة اتجاه البوصلة الاستراتيجية السورية. فالقاهرة تدرك أن استقرار سوريا لا يتحقق فقط بإعادة الإعمار أو التسويات الأمنية، بل بقدرتها على استعادة دورها كدولة عربية مركزية، مستقلة القرار، متوازنة العلاقات. وعليه، فإن مستقبل العلاقات المصرية-السورية لن يُحسم ببيانات سياسية أو زيارات متبادلة بقدر ما سيتحدد بعمق الخيارات الإقليمية التي ستختارها دمشق، وبمدى اقترابها من منطق الدولة، لا منطق الثورة او المذهبية او تحالفات من خارج المنطقة.
في المحصلة، تتحرك مصر في الملف السوري بعقل الدولة، لا بعاطفة التاريخ أو ضغوط اللحظة، وهي مقاربة قد تبدو بطيئة للبعض، لكنها تظل الأكثر اتساقًا مع مصالح مصر ودورها الإقليمي، ومع إدراكها العميق بأن استقرار سوريا الحقيقي هو المدخل الوحيد لأي عودة كاملة للعلاقات ، و مهما طال زمن التلاقي فستبقي سوريا كما كانت دائما في قلب وعقل مصر ومحورا من محاور أمنها القومي.
* سفير دكتور / محمد حجازي مساعد وزير الخارجية الأسبق .
اقرأ المزيد
السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب : أشجان كابول… وسجادة كرزاى




