رامي زهدي يكتب : الخطوط الحمراء المصرية في السودان .. حين يتحول الدعم المصري إلى معادلة أمن قومي مصرية–سودانية مُشتركة
لم تكن زيارة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان إلى القاهرة في الثامن عشر من ديسمبر 2025 زيارة عابرة، ولا مجرد محطة تنسيقية معتادة بين دولتين تجمعهما الجغرافيا والتاريخ والمصير، بل جاءت في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، تداخلت فيها حسابات الأمن القومي المصري مع مستقبل الدولة السودانية ذاتها، وتحولت فيها لغة البيانات إلى مؤشرات استراتيجية، تحمل ما هو أعمق من التحركات الدبلوماسية، وأبعد من الرسائل المباشرة.
البيان المصري الصادر بالتزامن مع الزيارة، وما تضمنه من تأكيد صريح على وجود خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها في السودان، يمثل تطورا نوعيا في مقاربة القاهرة للأزمة، وانتقالا واضحا من مرحلة ضبط الإيقاع السياسي إلى مرحلة تثبيت القواعد الصلبة التي تحكم أي مسار قادم، ليس فقط حفاظا على السودان، بل حماية للأمن القومي المصري في أحد أكثر ملفاته حساسية منذ عقود.
مصر، وهي تتابع المشهد السوداني، لا تنظر إليه كصراع داخلي معزول، بل كحلقة مركزية في سلسلة أمنية وجيوسياسية تمتد من البحر الأحمر إلى حوض النيل، ومن القرن الإفريقي إلى تخوم الصحراء الكبرى.
الأرقام وحدها تكفي لتفسير هذا القلق المشروع؛ فالسودان يملك حدودا برية مع مصر تتجاوز 1200 كيلومتر، ويطل على ساحل استراتيجي بطول يقارب 850 كيلومترا على البحر الأحمر، ويمثل معبرا حيويا لتدفقات بشرية وتجارية وأمنية، في وقت تستضيف فيه مصر ما يزيد عن 5 ملايين سوداني، وفق تقديرات غير رسمية، يشكلون أحد أكبر تجمعات اللجوء والوجود البشري غير المصري داخل البلاد.
من هذا المنطلق، فإن الحديث عن الخطوط الحمراء المصرية لا ينطلق من رغبة في الوصاية، ولا من نزعة تدخلية، بل من قراءة واقعية لتداعيات انهيار الدولة السودانية، أو تفكيكها، أو تحويلها إلى كيان هش تحكمه الميليشيات وتتنازع فيه مراكز النفوذ الإقليمية والدولية.
التجارب الإقليمية القريبة، من ليبيا إلى الصومال، أثبتت أن غياب الدولة لا ينتج سلاما، بل يخلق فراغا تتكاثر فيه شبكات السلاح والجريمة والإرهاب، وتدفع كلفته دول الجوار قبل غيرها.
“الخط الأحمر الأول”
أولى هذه الخطوط الحمراء، وأكثرها وضوحا، تتمثل في وحدة السودان وسلامة أراضيه، ورفض أي سيناريو يقود إلى الانفصال أو التقسيم أو إنشاء كيانات موازية، فالسودان الذي فقد جزءا عزيزا من أراضيه بانفصال الجنوب عام 2011 وإن كان إنفصال عن حق ومبرر، الأن لا يحتمل جولة جديدة من التفكيك، لا سياسيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا، أي مساس بوحدة السودان لا يعني فقط إعادة رسم خرائط، بل فتح أبواب صراعات ممتدة، قد تعيد إنتاج حروب أهلية لعقود، وتخلق بؤرا مزمنة لعدم الاستقرار على حدود مصر الجنوبية.
“الخط الأحمر الثاني”
الخط الأحمر الثاني يرتبط بالحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، بوصفها العمود الفقري للدولة الوطنية.
مصر، بحكم خبرتها التاريخية ومعرفتها الدقيقة بطبيعة المجتمعات المتعددة، تدرك أن تفكيك الجيوش الوطنية تحت شعارات براقة، دون بديل مؤسسي حقيقي، هو الطريق الأقصر لتحويل الدول إلى ساحات صراع مفتوحة.
والأرقام هنا أيضا كاشفة؛ فالدول التي شهدت انهيارا مؤسسيا كاملا في العقدين الأخيرين سجلت تراجعا في ناتجها المحلي الإجمالي بنسب تراوحت بين 30 و60 في المئة خلال خمس سنوات فقط، وارتفاعا في معدلات النزوح الداخلي واللجوء الخارجي بأكثر من 200 في المئة.
من هنا، فإن رفض القاهرة لأي محاولة لشرعنة كيانات مسلحة موازية، أو فرض معادلات أمنية خارج إطار الدولة، ليس انحيازا لطرف بقدر ما هو دفاع عن فكرة الدولة ذاتها، فالسلام الذي يقوم على تقاسم النفوذ بين السلاح غير الشرعي هو سلام مؤقت، سرعان ما ينقلب إلى صراع أشد ضراوة، بينما السلام المستدام لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل دولة قادرة، بمؤسسات موحدة، وسلطة شرعية، وسلاح واحد.
الخط الأحمر الثالث
الخط الأحمر الثالث، وهو الأكثر ارتباطا بالمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى، يتعلق بالأمن المائي المصري ، السودان ليس مجرد جار، بل شريك رئيسي في معادلة نهر النيل، وأي اختلال في توازناته السياسية أو انزلاقه نحو الفوضى، يضعف من قدرته على لعب دور متوازن ومسؤول في هذا الملف بالغ الحساسية.
مصر، التي تعتمد بنسبة تتجاوز 95 في المئة على مياه النيل، لا يمكنها أن تتعامل بخفة مع مستقبل دولة تمثل عقدة جغرافية وسياسية في منظومة الأمن المائي الإقليمي.
“مسار متكامل”
في هذا السياق، لا يمكن فصل زيارة البرهان إلى القاهرة عن زيارته السابقة إلى الرياض، ولا عن مسار اللجنة الرباعية، التحرك بين العاصمتين يعكس إدراكا سودانيا بأن مفاتيح الحل لم تعد داخلية فقط، وأن أي تسوية قادمة ستتشكل عند تقاطع الإرادة السودانية مع الحسابات الإقليمية الكبرى.
الرياض تمثل ثقلا دبلوماسيا واقتصاديا في مسار الوساطة، بينما تمثل القاهرة الضامن السياسي والأمني لفكرة الدولة الوطنية، والحائط الأخير أمام سيناريو التفكيك.
مصر، وهي تؤكد دعمها لجهود السلام الدولية، بما في ذلك الرؤية الأمريكية لتجنب التصعيد، تضع بوضوح شرطا أساسيا: السلام لا يأتي على حساب الدولة، ولا عبر تجاوز الخطوط الحمراء التي تمس الأمن القومي المصري والسوداني علي حد سواء ، وهذا الموقف يعكس تحولا من سياسة إدارة الأزمة إلى محاولة تشكيل ملامح الحل، عبر إعادة ضبط البوصلة، وربط المسار الإنساني بالمسار السياسي، ووقف إطلاق النار بإعادة بناء الدولة، لا الاكتفاء بهدن هشة قابلة للانهيار.
النتائج المتوقعة لهذه الزيارة لا تقاس ببيان ختامي فقط، بل بتأثيرها التراكمي على المشهد وعلى المدى القريب، حيث يتوقع تثبيت تفاهمات مصرية سودانية حول ثوابت التسوية، وتعزيز تنسيق أمني غير معلن لضبط الحدود وتأمين البحر الأحمر، وعلى المدى المتوسط، قد يسهم الدعم المصري، إذا ما تواكب مع تنسيق سعودي، في إعادة التوازن إلى طاولة التفاوض، ومنح المؤسسة العسكرية السودانية غطاء عربيا يمنع عزلها سياسيا، أما على المدى الاستراتيجي، فإن الرهان الحقيقي يتمثل في إحياء محور عربي عقلاني قادر على كبح تدويل الأزمة، ومنع تحويل السودان إلى ساحة نفوذ مفتوحة.
الخطوط الحمراء المصرية في السودان ليست شعارات، بل تعبير عن معادلة أمن قومي مركبة، ترى في استقرار السودان شرطا لاستقرار مصر، وفي وحدة الدولة السودانية ضمانة لمنع فوضى إقليمية أوسع، فالقاهرة لا تبحث عن دور بطولي، ولا عن وصاية سياسية، بل عن حل واقعي، قابل للاستمرار، يحفظ للسودان دولته، وللمنطقة توازنها، وللأمن القومي المصري-السوداني المشترك حدوده التي لا تقبل المساومة.
اقرأ المزيد
مصر تجدد دعمها لرؤية ترامب للسلام في السودان.. والقاهرة تحدد «خطوطًا حمراء » لا يمكن السماح بتجاوزها




