السفير أنتوني كون يكتب : لماذا يهمّنا السلام في السودان ؟

عندما ننظر إلى الحرب الدائرة في السودان، فإننا لا نتابع أحداثًا من مسافة تتيح لنا الراحة أو الانفصال العاطفي.. نحن ننظر إلى صراع يمسّنا مباشرة، ويخاطب من نكون، ومن أين أتينا، وأي نوع من المستقبل نأمل في بنائه.
أكتب هذه التأملات بصفتي الشخصية، لا نيابةً عن أي مؤسسة، ولكن كمواطن يخاطب مواطنيه من جنوب السودان، محاولًا الشرح والتفكير بصوت عالٍ، ودعوةً إلى تأمل صادق حول سبب أهمية ما يحدث في السودان لنا إلى هذا الحد.
أول ما يواجهنا ليس الاستراتيجية أو الجغرافيا السياسية، بل الألم الإنساني.. عندما نرى أطفالًا أُخرجوا من الفصول الدراسية إلى ملاجئ مكتظة، وأمهات يحاولن الحفاظ على تماسك أسرهن في ظروف مستحيلة، ورجالًا ونساءً مسنين يتجولون بلا دواء أو يقين، فإننا لا نرى غرباء ، نحن نرى أنفسنا في لحظة أخرى من الزمن.. نتذكر النزوح.. نتذكر الخوف حين يأتي فجأة، والصدمة الصامتة لمغادرة الوطن، والأسئلة التي كان يطرحها الأطفال حين لم تكن هناك إجابات.
ولهذا يمسّنا الألم في السودان بعمق.. إنه يوقظ ذكريات نحملها في داخلنا، إن الإعراض عنه سيكون إنكارًا لتجربتنا المعاشة، ولن يكون حيادًا.
هذا الارتباط العاطفي ليس مصادفة؛ بل هو متجذّر في التاريخ ، علاقتنا بالسودان ليست مجرد علاقة دولتين متجاورتين تفصل بينهما حدود ، لعقود طويلة كنا بلدًا واحدًا، نتشارك المؤسسات والأسواق واللغات والصداقات والزيجات والأحزان.
الانفصال السياسي غيّر أنماط الحكم، لكنه لم يمحِ الروابط الإنسانية. فما زالت العائلات متصلة عبر الحدود، وتستمر الروابط الاجتماعية رغم الحرب والانقسام. وقليل من المجتمعات تفهم الواقع الداخلي للسودان — مخاوفه ومظالمه وجراحه غير الملتئمة — بقدر ما نفهمه نحن في جنوب السودان، وهذا الفهم يمكّننا من التعاطف دون الاصطفاف، ومن رؤية العواقب قبل أن تتجلى بالكامل.
وتعزّز الجغرافيا هذه الحقيقة بإلحاح هادئ. فالصراعات في منطقتنا لا تبقى محصورة، الحدود مسامية، وانعدام الأمن غالبًا ما يتحرك أسرع من الدبلوماسية ، العنف ينتقل مع النازحين والأسلحة والخوف.
ما يحدث في السودان اليوم لا يتوقف عند حدوده؛ بل يعيد تشكيل الواقع خارجها، فالنزوح عبر الحدود، وتدفق السلاح، وتغيّر موازين الأمن تتراكم تدريجيًا، وبشكل غير ملحوظ، حتى تصبح راسخة.
وكلما طال أمد الصراع، تعمّق أثره في جنوب السودان ، لا يوجد سيناريو نجني فيه فائدة من هذه الحرب، نحن لا نكسب شيئًا من استمرار عدم الاستقرار في السودان؛ فكل شهر يمرّ يضاعف تأثيراته على أمننا واقتصادنا ونسيجنا الاجتماعي.
ومع مرور الوقت، يبدأ النزوح نفسه في التغيّر ، فما يبدأ كملاذ مؤقت يتحول غالبًا إلى إقامة طويلة، والإقامة الطويلة تتحول ببطء إلى استقرار دائم، والتاريخ يقدم لنا درسًا مقلقًا، ففي أوائل ثمانينيات القرن الماضي، كانت حركات اللجوء إلى دارفور — مدفوعة بانعدام الأمن والضغوط البيئية في المناطق المجاورة — تُعدّ في البداية حالات إنسانية مؤقتة، ومع مرور الوقت، استقرّت تلك المجموعات واندمجت وأعادت تشكيل الديناميات السياسية والاجتماعية المحلية، بعض المجتمعات التي نشأت خارج حدود السودان أصبحت جزءًا من نسيجه الاجتماعي، تلاشت ذاكرة كيفية وصولهم، بينما استمر وجودهم ، لم يحدث ذلك بسوء نية أو قصد، بل حدث بهدوء، عبر الزمن والإهمال.
وقد تتكرر عملية مشابهة في جنوب السودان إذا استمر الصراع في السودان دون كبح. فاللاجئون لا يأتون كصفحات بيضاء، إنهم يجلبون معهم ثقافاتهم ومعتقداتهم وممارساتهم الاجتماعية وشبكات القرابة. ومع مرور الوقت، يجذبون أقاربهم وأفراد مجتمعاتهم الذين بقوا خلفهم ، ومع تعاقب السنين، تتلاشى ظروف الوصول، بينما تنشأ أجيال جديدة لا تعرف سوى الأرض التي نشأت عليها.
وفي نهاية المطاف، تطوّر هذه المجتمعات أصواتًا ومصالح مشروعة في الحياة المحلية والوطنية ، وهذا ليس أمرًا سلبيًا بطبيعته ولا مدعاة للخوف — لكنه يحمل تداعيات خطيرة على الأمن والسياسة والأرض والتماسك الاجتماعي إذا لم يُستشرف ويُدار بمسؤولية.
جنوب السودان، بطبيعته، وجهة جاذبة ، فمساحته الشاسعة، وعدد سكانه القليل نسبيًا، وما يُتصوَّر من فرص اقتصادية، تجذب ليس فقط اللاجئين الفارين من الحرب، بل أيضًا الرعاة والمهاجرين الاقتصاديين، كما أن تغيّر المناخ وتبدّل أنماط هطول الأمطار يدفعان المجتمعات الرعوية بالفعل إلى التحرك لمسافات أبعد بحثًا عن المراعي والمياه.
وعندما تتقاطع هذه الضغوط مع صراع طويل الأمد في السودان، تكتسب حركة العبور عبر الحدود بُعدًا أمنيًا، وتشتد المنافسة على الأرض والموارد بهدوء، قبل وقت طويل من أن تصبح مرئية ، ومن دون استشراف، قد يقوّض الأثر التراكمي بعض المكاسب التي كان من المفترض أن يحققها الاستقلال.
وتستحق الأرض، على وجه الخصوص، تفكيرًا متأنيًا، فالممارسات الحالية في تأجير أو بيع الأراضي — وغالبًا ما تكون غير رسمية وضعيفة التنظيم — تنطوي على مخاطر طويلة الأمد، ومع مرور الوقت، قد يتوفى أصحاب الأرض الأصليون، وتضيع السجلات، وتختفي قصة انتقال الملكية، وما يبدأ كاتفاق شخصي قد يظهر لاحقًا كنزاع جماعي أو سياسي، خاصة عندما تكتسب الأرض قيمة اقتصادية أو استراتيجية، هذه ليست أزمات مفاجئة، بل بطيئة الحركة، ولا تظهر عواقبها إلا بعد سنوات، حين تصبح الحلول أشد صعوبة.
ولا تهدف هذه التأملات إلى إثارة الشك تجاه اللاجئين أو الأجانب، ولا إلى بثّ الخوف أو الإقصاء، فالتعاطف والإنسانية يجب أن يظلا في صميم هويتنا، لكن التعاطف بلا استشراف هشّ ، والاعتراف بالعواقب طويلة الأمد ليس عداءً، بل مسؤولية، فالواجب الإنساني والتفكير الاستراتيجي يجب أن يسيرا معًا.
وهذه الحقائق لا تنفصل عن المخاوف الأمنية والاقتصادية الأوسع، فاستقرار جنوب السودان مرتبط ارتباطًا وثيقًا باستقرار السودان، فالجماعات المسلحة، والشبكات الإجرامية، وتدفّق السلاح غير المشروع لا تعترف بالحدود، كما أن شرايين الاقتصاد مترابطة بالقدر نفسه، وبصفتنا دولة غير ساحلية، يعتمد جنوب السودان على ممرات خارجية للتجارة وتصدير النفط. واستمرار عدم الاستقرار في السودان يهدد اقتصادنا وحكمنا وتماسكنا الاجتماعي بشكل مباشر، وترك السودان يواجه الحرب والسلام اعتمادًا إلى حد كبير على جهود فاعلين غير إقليميين وحدهم سيكون خطأً استراتيجيًا — ليس للمنطقة فحسب، بل للقارة الأفريقية بأسرها.
وتزداد المخاطر حين ننظر إلى دور السودان الأوسع، فالسودان يحتل موقعًا استراتيجيًا في القرن الأفريقي، ويقع في قلب حوض النيل، ويمتلك موارد شاسعة غير مستغلة، ويشترك في الحدود مع عدة دول هشة ، وأي تحوّل سياسي أو أمني غير محسوب داخل السودان لا يبقى محليًا؛ بل يشعّ إلى الخارج، مع قابلية لزعزعة استقرار المنطقة الأوسع وما بعدها، ولهذا يجب فهم السلام في السودان ليس باعتباره شأنًا سودانيًا فحسب، بل ضرورة إقليمية وقارية.
ولا يفتقر جنوب السودان إلى القدرة إذا ما اختار الانخراط بشكل بنّاء. فتاريخنا، وفهمنا للواقع السوداني، ومصداقيتنا الأخلاقية تمنحنا صوتًا يمكن استخدامه بحذر ومسؤولية، والانخراط لا يعني الانحياز، بل يعني المساعدة في خلق مساحة للحوار وضبط النفس والعودة إلى الإنسانية.
ومن ثمّ، فإن جهود السلام ليست تشتيتًا عن تحدياتنا الداخلية. بل هي استثمار في أمننا ونسيجنا الاجتماعي ومستقبلنا ، قصص اليوم لن تكون بالضرورة قصص الغد. وأشخاص اليوم قد لا يكونون هم أنفسهم غدًا، فالتاريخ يتحرك بهدوء، ويشكّل النتائج قبل أن ندركها.
ولأولئك الذين يعتقدون أن الصراع في السودان لا يعنينا، أقدّم هذه التأملات دعوةً للتوقف وإعادة التفكير، وأحثّ المثقفين وصنّاع السياسات والمواطنين في جنوب السودان على النظر بعناية إلى ما يحدث في السودان — وما وراءه — والتفكير في كيفية تأثيره على أمننا وسياساتنا واقتصادنا ومجتمعنا في السنوات المقبلة.
إن السلام في السودان ليس مشكلة تخصّ الآخرين ليحلوها، إنه تحدٍّ مشترك بعواقب مشتركة، والانخراط فيه بتفكير وتعاطف واستراتيجية ليس فقط وقوفًا إلى جانب شعب السودان — بل هو حماية لمستقبلنا نحن، وصون لوعد دولة جنوب السودان نفسها.
* أنتوني كون دبلوماسي مخضرم من دولة جنوب السودان، وباحث، وصحفي سابق، يمتلك خبرة طويلة في الشؤون الإقليمية والدولية.
اقرأ المزيد
مصر تجدد دعمها لرؤية ترامب للسلام في السودان.. والقاهرة تحدد «خطوطًا حمراء » لا يمكن السماح بتجاوزها




