أحمد دياب..يكتب: (بعد هدوء العاصفة ..نسبيًا) حين تشتبك الكرامة والخصوصية في عربة مترو …!
في إحدى عربات المترو، حيث يفترض أن يكون الجميع متساوين في ضيق المكان واتساع الاختلاف، وقعت حادثة أثارت جدلًا واسعًا؛ رجل مسن من صعيد مصر، استشاط غضبًا حين رأى فتاة تجلس واضعةً رجلًا على رجل، فاعتبر ذلك إهانة له ولمن حوله، وتجاوز الغضب حدّه إلى عنف لفظي. في المقابل، رأت الفتاة أن ما حدث اعتداء صريح على خصوصيتها وحقها في الجلوس كما تشاء، دون وصاية أو محاسبة اجتماعية.
حادثة عابرة في ظاهرها، لكنها كاشفة في جوهرها عن صراع عميق بين منظومتين من القيم
منظومة ترى في بعض السلوكيات خروجًا على الوقار العام، وأخرى تؤمن أن الجسد شأن شخصي لا يحق لأحد التدخل فيه.
الرجل لم يرَ نفسه معتديًا، بل حارسًا لقيم تربى عليها، حيث كان الجلوس والهيئة لغة احترام لا تقل أهمية عن الكلام.
والفتاة لم ترَ نفسها مخطئة، بل مواطنة تمارس حقًا طبيعيًا، وترفض أن تُحاسب بمعايير لم تخترها.
وهنا تتجلى المأساة
حين يتحول اختلاف الفهم إلى صدام ويتحول الشعور بالإهانة إلى مبرر للعنف وتتحول الحرية إلى استفزاز غير مقصود..!
المشكلة الحقيقية ليست في وضعية جلوس بل في غياب لغة الحوار فالمجتمع الذي لا يملك أدوات للتفاهم يلجأ سريعًا إلى الاتهام أو الفعل القسري.
والمكان العام حين يخلو من قواعد واضحة للسلوك والتعامل يصبح ساحة مفتوحة لتأويلات متضاربة.
ويبقى السؤال الأهم كيف نتجنب تكرار هذا المشهد؟
ولأن المترو يستخدمه أكثر من أربعة مليون راكب يوميًا وكذلك كل الأماكن العامة التي تفتح ذراعيها للجميع على اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم المتعددة والمتباينة …فتكرار مثل هذه المشاهد وارد بشكل كبير لذلك اختصرت بعض الأمور والضوابط التي يجب مراعاتها حتى نضمن عدم تكرارها ويعيش الجميع في كنف احترام الآخر قبل فكرة تقبله أو رفضه ..
أول هذه الأمور – دون تحيز لأحد – هو ترسيخ مبدأ أن العنف مرفوض مطلقًا وألا يبرر الاختلاف الثقافي أو العمري أو الأخلاقي أي اعتداء جسدي أو لفظي.
القانون هنا ليس خصمًا للقيم بل حارسًا للحد الأدنى من الأمان مخافة أن يتحول الاحتكاك إلى شعلة والشعلة إلي بركان….!
ثانيًا تعزيز ثقافة الحوار لا الوصاية من حق أي شخص أن يشعر بعدم الارتياح، لكن التعبير عن ذلك يجب أن يكون بالكلمة الهادئة أو التجاهل، لا بالفرض أو الإهانة يقول تعالى ( ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) .
ثالثًا التوعية بالسلوك في الأماكن العامة والتأكيد أن الحرية الشخصية لا تعني تجاهل السياق العام، كما أن
احترام المكان لا يعني مصادرة الفرد..
رابعًا التدريب على إدارة الغضب والاختلاف
خاصة لدى كبار السن والشباب على السواء فالصدام غالبًا ليس وليد الفكرة بل وليد الانفعال وكلنا يعلم وصية رسول الله التي قالها لرجل أتاه سيتوصيه فقال له رسول الله (لا تغضب) ورددها بأبي وأمي صلوات ربي وسلامه عليه.
خامسًا وجود آليات تدخل رسمية داخل المرافق العامة
موظفون مدربون على احتواء النزاعات قبل انفجارها بدل أن تُترك الأمور لاجتهاد الأفراد…
وأخيرًأ نداء إلى أصحاب الثقافات المختلفة، وأهل الصعيد خاصة
حين ينتقل الإنسان من بيئة محافظة إلى مدن كبيرة طغت عليها المدنية، وتأثرت بأنماط حياة وافدة من ثقافات أخرى يصبح الوعي بالاختلاف ضرورة لا ترفًاوأهل الصعيد بما عُرف عنهم من شهامة ووقار مدعوون عند السفر أو الإقامة في المدن الكبرى إلى إدراك أن ما كان يُعد مساسًا بالهيبة في بيئة ما قد يكون سلوكًا عاديًا في بيئة أخرى دون أن يحمل نية إساءة أو تعمد استفزاز.
كما أن على أهل المدن بدورهم أن يتعاملوا بتفهم مع من يحملون منظومات قيم مختلفة.. فالتعايش مسؤولية متبادلة لا تُلقى على طرف واحد.
في النهاية، لا الرجل كان وحشًا، ولا الفتاة كانت مستفزة بالضرورة كلاهما أسير تصوراته وبيئته وفهمه.. وكلاهما ضحية غياب مساحة آمنة للاختلاف وللأسف الشدي كانا محتوىً منتظرًا لجائعي السوشيال ميديا الذين تعمّد بعضهم أن يتناول الحادثة من منظوره فخرجت علينا محامية تناولت الفكرة ورجّحت كفة على أخرى والذي بدوره لم يعجب أحدهم فعبر عن رفضه رأيها على هيئة تهديد فكانت نهايته سجن وحديد..!
الشاهد أيها القارئ الكريم ..ما لم نتعلم كيف نتعايش مع التباين دون تضخيم أو شيطنة سواء في الواقع أو حتى على منصات التواصل ستظل مثل هذه الحوادث تتكرر، لا لأنها خطيرة في ذاتها، بل لأننا لم نتعلم بعد كيف نختلف دون أن نتصادم.
أحمد دياب ✍️



