أخبار عاجلةاخبار افريقياالرأي

كيمو بن محمد كوندي يكتب .. نحو الجمع بين الحسنيين ” العلم والمال” 

 

لعل من الخطأ الكبير في وقتنا الحاضر أن يُولّيَ العالم أو الداعية وجهَهُ شطرَ طلب العلم، وينسى نصيبَه من الدنيا من كسب المال فيعيش عالة على الناس؛ ظنا منه أن كسب المال وجمعَه يتعارض مع ما يسمى بالزهد عن الدنيا وملذاتها الفانية!!

ولذا يبدو لي أو يتراءى لي في أول وهلة والله أعلم” أن الأمر ليس كذلك، لأن الجمع بين طلب العلم وكسب المال للحصول على العلم والمال معا من كمال السعادة في هذه الدنيا، وهذا ليس أمرا مُستَنكرا في الملة، ولا أمرا مُستهجنا في الشرع، ولايتعارض كذلك مع الزهد عن الدنيا بحال من الأحوال، مادام صاحبه لا يُسرف ولايتجاوز حدود الله في الحقوق والواجبات، ومما لا ريب فيه أن الجمع بين طلب العلم وكسب المال في وقتنا الحاضر” باتَ من الواضح أمرا ضروريا لامَحيد عنه وخاصة في هذه المرحلة المفصلية التي يمرّ بها البشرية عامة من ظروفٍ وتقلّباتٍ عصيبةٍ مالله بكُنهها عليم!!

وحسبي في هاتيك المقولة” أن أشير إلى الإمام” الليث بن سعد”كمنوذجٍ حيٍّ في هذا المضمار، لأن هذا العلامة المنفوح، والعابد الزاهد، والفقيه النبيه، فقيه أهل مصر،مع جلالة قدره، وعلوّ كعبه في العلم، الذي قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله” بأنه كان أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به!! وفي رواية ” ضيّعه أصحابه.

وقال أيضا” مافاتني أحد أسفتُ عليه ما أسفتُ على الليث بن سعد وابن أبي ذئب.

والحاصل” هو أننا نجد في ثنايا بيوغرافية هذا الإمام الجليل الليث بن سعد” مثالا واضحا، ونموذجا حيًّا في الجمع بين العلم وكسب المال!!

فقد كان الليث بن سعد موفور الغِنى، وكان سخيّا جوادا ، وزاهدا ورعا، وكانت له فلك تجري في البحر بأمره! .

وقد ورد في تاريخ بغداد ما نصّه” سمعنا أن أبا قتيبة يقول : فكنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفائن” سفينة فيها مطبخة، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه.

وقال يحي بن بُكير ” إن الناس كانوا يزدحمون على باب الليث بن سعد فيتصدّق عليهم فلا يترك أحدا، وتصدّق وأنا معه على سبعين بيتا من الأرامل، ثم بعثَ غلاما له بدرهم فاشترى خبزا وزيتا ثم رجعتُ إلى بابه فرأيت عنده أربعين ضيفا فأخرج إليهم اللحم والحلوى، فلما أصبح قلتُ لغلامه: بالله عليك لمن الزيت والخبز؟ فتعجّبَ من كونه يطعم أضيافه اللحم والحلوى وهو يأكل الخبز والزيت!!

وفي كتاب الخطط لعلي مبارك باشا ” يقول : وكانت له قرية بمصر يقال لها ” الفرما” مهما حمل إليه من خراجها يجعله صُرَرًا ويجلس على باب داره ويُعطي من مرَّ به من المحتاجين صرةً صرةً حتى لا يدع ذلك إلا اليسير.

ومن مظاهر زهده واستغنائه عن أموال السلاطين ما حدثَ في رحلته إلى بغداد ليفتي الرشيد في زوجته “زبيدة” وأمرَ له : بخمسة آلاف دينار” فردّها وقال: ادفعها لمن هو أخوج مني!!

واختلفوا في تقدير ثروته، فقائلٌ إن الليث بن سعد كان يستغل خمسة آلاف دينار في كل سنة، وقائل أكثر من ذلك، حتى بلغ بعضهم ثمانين ألف دينار، بل قال بعضهم إن دخل الليث بن سعد كان” مائة ألف دينار في كل عام، ما يعادل في وقتنا الحالي ( ثلاثون آلاف دولار أمريكي)!!

فترك الليث من ورثته ثروة هائلة استعنتْ أبنائه عن التّكفف والتّسْآل، ويذكر على باشا في كتابه الخطط” أن ابن الإمام الليث بن سعد الذي هو شعيب بن الليث كان غينيا وسخيا ينحو نحو والده.

وذكر ابن أبي الدنيا” أن شعيبا لما حجّ فتصدق بمالٍ عظيمٍ ، فمرَّ عليه رجل من العلماء فسأل عنه فقيل له هذا العالم الكريم ابن الكريم.

ولمّا دخل دمشق جاءه رجل وقال له: إن عبد أبيك معي، لأبيك تجارة ألف دينار وأنا الآن في الرق، فخذ مال أبيك واعتقني إن شئت، فأعتقه وأعطاه المال.!

قال الخطابي: فلا أدري أيهما أحسن العبد في إقراره بالمال والرق، أم السيد حيث أعتقه وأعطاه المال.

قلتُ: هكذا فليكن عالم، هكذا فليكن داعية، هكذا فليكن إمام، مثلَ الإمام الليث بن سعد، إمامةٌ في العلم والزهد والكرم، وكثرةٌ في الأموال، وسعةٌ في الرزق، فاجتمعتْ له أسباب السعادة، وفاز من الدنيا بنصيب لايظفر به إلا قليل!!

يقول الإمام الشافعي حين وقف على قبر الإمام الليث بن سعد” فقال: لله درّك ياإمام، لقد حزْتَ أربع خصالٍ لم يكمُلن لعالمٍ: العلم، والعمل، والزهد، والكرم.

ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ( نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح).

هذا والله من وراء القصد والابتغاء والله المستعان .

• كيمو بن محمد كوندي 

باحث في جامعة القاهرة قسم الشريعة والقانون. 

إقرأ أيضا :  

كيمو بن محمد كوندي يكتب : المزاوجة بين العلوم وضرورة الاستفادة منها

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »