أخبار عاجلةالرأي

مكي المغربي يكتب : صحفي من زمان حتشبسوت

 

عندما نقف كأفارقة مع المنطقة القارية الإفريقية للتجارة الحرة AfCFTA، والتجمعات الإقتصادية الإقليمية RECs ونؤيد مبدأ تعزيز المصالح والتبادل السلمي بديلا للحروب، يجب أن نعلم أن أسلافنا توجهوا نحو ذلك قبل أن يؤسس العالم الغربي لنظريات إقتصاد السوق وتقنين المنافسة وعولمة التجارة.

لقد خلد التاريخ للملكة حتشبسوت المصرية أنها دمجت البحر الأحمر في “طريق البخور البحري”، والذي تأسس عليه لاحقا طريق التوابل وطريق الحرير.

حتشبسوت هي أيضا من وسعت نفوذ مصر في عهدها الإمبراطوري في القرن الإفريقي عبر تبادل المنافع وليس الحملات العسكرية، وإذا كان غيرها من الفراعنة الذكور ومنهم جدها أحمس الأول حققوا الانتصارات العسكرية فهي أول من حقق “الريادة المصرية” بمفهومها السلمي الخالص.

أشرت في مقال سابق “الفرعون في مملكة أكسوم”، كتبته إبان زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي ومخاطبته للبرلمان الإثيوبي في مارس 2015 -وهي لفتة مذهلة من الحكومتين- إلى أن التواصل السلمي الأول بين مصر في عهد حتشبسوت والقرن الإفريقي هو ما أفضى إلى أقصى تمدد جنوبي للإمبراطورية المصرية وعزز لغة التعاون والمعاهدات العرفية والعلاقات التجارية في إفريقيا.

تختلف الآراء حول الأشهر و الأقدم من الطرق البحرية والبرية للتجارة العالمية، إلا أنني أرى القصة الأولى في المحيط الهندي بدأت من علاقة الهند بسواحل آسيا الممتدة نحو إفريقيا حيث كان طريق البخور يبدأ بحريا من موانئ الهند موزيريس في كيرلا، وبهاروش في غوجرات ويمتد لجنوب الجزيرة العربية، عمان حاليا، وشرق أفريقيا، ولكنه كان يتفرع إلى طرق برية عبر الجزيرة العربية شمالا إلى الشام وأوروبا وعبر بلاد البنط ومنها إلى النوبة ومصر. طريق الحرير هو الأشهر ولكنه ليس الأقدم فقد بدأ بريا ليتحول بحريا مستفيدا من طرق البخور والتوابل.

نعم صحيح، لقد كانت الرحلات البحرية بين بلاد البنط ومصر سابقة للملكة حتشبسوت لكنها لم تكن تعتبر مسارا بحريا تحكمه معاهدات عرفية وزيارات حكومية متبادلة في مستوى أشبه بالكونفيدرالية التجارية بين البنط ومصر، هذه هي البصمة التي ادخرها التاريخ للمرأة المصرية.

بالرغم من حملات أحمس الأول، كان التمرد في بلاد النوبة يهدد الطريق النهري من حين لآخر، وكان تفكير الفراعنة هو إخماد التمرد بالحرب لضمان تدفق خيرات البنط والنوبة ولكن تفكير حتشبسوت خرج من المعتاد وتوجه إلى التواصل البحري المباشر مع البنط وذلك ما أدى إلى ضم البحر الأحمر إلى طريق البخور البحري القديم، ولولا ذلك لما انتعشت بل تأسست موانيء كثيرة على البحر الأحمر لم تكن موجودة قبل هذا التحول.

الطبيعة هي التي صنعت طريق البخور ، في أجزاء من المحيط الهندي (كان يسمى بالبحر الإرتري في العالم القديم ثم تقلص هذا الإسم في البحر الأحمر وأخذت منه إرتريا اسمها) هنالك تيارات ورياح بحرية تقود السفن بسلاسة في الشتاء من نوفمبر إلى فبراير من الهند إلى سواحل شرق إفريقيا ويشمل هذا سواحل البنط في الصومال، ثم ترتد التيارات في الصيف من أبريل إلى سبتمبر من إفريقيا إلى الهند،  وللغرابة فقد ورد اسم البحر الأحمر في بردية هاريس كما يلي (با-يم-عا-ان-موقدى) وتعني بحر المياه المعكوسة العظيم لأن فيه تيارات في الصيف تتجه عكس حركة النيل من الشمال للجنوب، ويسهل بذلك الإبحار لباب المندب، ليصادف هذا رحلة الصيف نحو الهند و وسواحل عمان، تماما مثل التغيير من خط إلى آخر في المترو.

كل شيء إذن كان مهيئا وينتظر ملكة ذات تفكير إيجابي لتمزق فاتورة الحرب وتضم لنفوذها بلادا واسعة بالدبلوماسية التجارية.

مسار الحملة وموقع بلاد البنط

unnamed 9 13 مكي المغربي يكتب : صحفي من زمان حتشبسوت

اتخذت حتشبسوت قرارها، وكلفت وزير ماليتها “نهسي” بقيادة الحملة ودرست كل العقبات، وصمم لها المهندسون المصريون سفنا قابلة للفك والتركيب، وقد أوردت هذا الباحثة الكندية أليسيا ماكنزي في محاضرة رائعة – متوفرة على يوتيوب – شملت النظريات الأساسية حول موقع بلاد البنط، هل هي الصومال أم الجزيرة العربية، أم شرق أفريقيا بين السودان وإرتريا، ويضاف إليها بعض النظريات المهملة مثل كونها مكانا إسطوريا أو شمال مصر لا جنوبها.

أخذت حملة حتشبسوت ذات السفن الخمس الطابع العسكري في تكوينها وليس في أداءها ولا نتائجها، إذ كان في كل سفينة ثمانية ضباط ومئتين من الجنود، وشملت أيضا موظفين وكتبة ورسامين ليصوروا الأحداث، وهذا ما دفعني أن أختار العنوان “صحفي في زمن حتشبسوت”، إذ أشعر برابطة الزمالة بيني وبين من حملوا البرديات وأقلام البوص للتغطية من موقع الحدث لهذا المؤتمر الإقليمي التجاري السياسي الفريد في زمانه.

استغرقت وقتا طويلا في الاطلاع على معظم ما كتب ونشر حول موقع بلاد البنط من نظريات ولكن يبدو أن العلم الحديث اختصر الطريق نحو ترجيح أن مكان اللقاء وتبادل الهدايا والاتفاقات هو في المنطقة بين إرتريا والسودان، بينما تمتد بلاد البنط في منطقة القرن الأفريقي عبر السواحل لتشمل جيبوتي والصومال واليمن القديم.

عينة من مومياء قرد عاد مع الرحلة حددت أنه جاء من تلك المنطقة من الهضبة الإثيوبية إلى شرق السودان، وبتتبع مسار الرحلة عبر البحر الأحمر ثم العودة عبر النيل تنحصر الخيارات في حوض نهر القاش بين السودان وإرتريا، أو بين نهري بركة والقاش، لفرضية أن البركة كان يصب في البحر الأحمر والقاش كان يصب في عطبرة مما يعني أن المملكة التي زارها وفد حتشبسوت تقع بين أغوردات في ارتريا وكسلا في السودان.

يؤكد ضرورة علاقة المنطقة بالسافنا السودانية وجود “الطائر الكاتب Secretary Bird” ضمن الهدايا على جداريات معبد حتشبسوت مع هدايا ملك البنط، ويعرف هذا الطائر في السودان باسم “صقر الجديان” وقد أخذ هذه التسمية لقدرته على إختطاف الجدي الصغير والتحليق به عاليا، وهذه سلالة قوية تختلف عن مناطق الانتشار الأخرى للطائر، ولذلك صقر الجديان هو رمز الدولة السودانية حاليا.

وبهذا الترجيح يسهل الربط بين نظريات عديدة منها الأصل الإفريقي لقدماء المصريين في منطقة النوبة وجنوبها والتي تمتد حتى ضفاف النيل الأزرق والأبيض وجبال النوبة، حيث يسمونها “أرض الأرواح والأجداد” ويسمون منطقة البنط “أرض الآلهة”.

مما يرجح هذا الرأي هو وجود مجموعة القاش Gash Group التي سبقت حضارة كرمة والتي أكدت البحوث أنها قادمة من منطقة القاش – كسلا حاليا في السودان، وهي بالضبط المنطقة الخصبة التي تغمرها المياه في موسم الأمطار ويستدعي هذا رفع المنازل فوق قوائم من جذوع الشجر كما جاء في جداريات المعبد.

ومن ناحية الكشوفات الأثرية هنالك مقالة مطولة في من خلاصات البعثات الإيطالية في كسلا في الثمانينات والتسعينات وحتى العام 2010 نشرتها مجلة الآثار المصرية للباحث الإيطالي أندريا مانزو بعنوان “أدلة فرعونية جديدة من شرق السودان”.

شتول أشجار اللبان “الكندر” التي جلبتها الحملة إلى مصر، تعرف حاليا باللبان الحبشي، وهو موجود بأسماء أخرى في شمال الصومال وعمان والهند.

أيضا، كان طريق العودة من البنط إلى مصر عبر النيل، وهذا ما أكده عدد من الباحثين ولكنه ظهر بسرد شيق في بحث متكامل بعنوان “البعثات التجارية البحرية عبر البحر الأحمر في عصر الدولة الفرعونية الحديثة” للباحث الجزائري عباس بلمحفوظ في مجلة هيرودوت العلمية أن رحلة عودة بعثة حتشبسوت كانت عن طريق نهر عطبرة أحد روافد النيل ثم توجهت شمالا إلى النوبة ومنها إلى مصر، وهذا يؤكد أن حتشبسوت خاطت المنطقة بحرا ونهرا وبرا.

كيف عبرت السفن شلالات النيل وجنادله الوعرة؟ الإجابة سهلة، كيف تحركت السفن من البحر الأحمر إلى منطقة القاش؟ الجواب هو التصميم العبقري للسفن، والذي لا يشمل الفك والتركيب فقط إنما استخدام الحبال في الربط بدلا عن ضرب المسامير، ثم الدهن بالقار بعد ذلك، وهذا ما عزز قدرة السفن على تفادي التحطم في الشعاب المرجانية للبحرالأحمر، حيث الأقرب للمسار هو أن السفن قد أبحرت من مرسى جواسيس وهو جنوب سفاجة في مصر حاليا إلى مرسى بادي في منطقة عقيق في السودان حاليا، وتلك أقدم الموانيء في تلك المنطقة.

بالرغم من هذا التسلسل المنطقي والعلمي، تبقى منطقة شمال الصومال جزءا أساسيا من بلاد البنط، وهي المحطة الأفريقية الأهم للهند وهذا يعني أن أرض البنط تمتد من شرقي النوبة إلى سواحل البحر الأحمر وتشمل منخفضات وسواحل إرتريا وجيبوتي وصولا إلى ميناء موندوس الصومالي وهو في منطقة حيس وليس بعيدا من بربرة حاليا، وتشمل البنط أيضا أجزاء من اليمن القديم.

نلاحظ أن بلاد البنط لم تشمل أعالي الهضبة الإثيوبية وتلك بلاد شهدت ميلاد مملكة أكسوم والتي جاءت بعد البنط ورعمت أو دعمت.

جذور البنط ونظامهم السياسي

figure80 مكي المغربي يكتب : صحفي من زمان حتشبسوت

ها هنا سؤال؟ كيف يعقل ألا يبقى أثر واضح ومدن كبرى وآثار ضخمة لحضارة البنط؟ ما هي عاصمتهم؟ من هم ملوكهم الذين لم يظهر منهم سوى الملك باريحو والملكة آتي والتي لم يغفل المراسل المصري التصوير الدقيق للونها الأسمر وامتلاء قوامها الإفريقي على جدران معبد حتشبسوت الذي يعرف باسم الدير البحري؟ هل هي حضارة أسطورية مثل مملكة أتلانتا الغارقة؟ وهنا يبرز الرأي الذي يقول أنه لا توجد بلاد البنط من الأساس وأن ما حدث كان اسطورة نسبتها حتشبسوت لنفسها لتبرر لقبها الفرعوني الذي سلبته من تحتمس الثالث عندما كان صغيرا، ونسجت قصة أن الإله آمون كلفها بهذه الرحلة، واشتكى لها من رداءة أصناف البخور في معابده.

هذه النظرية حول أسطورية البنط انتهت تماما بشعرة من مومياء قرد كما ذكرنا، وبذلك نعود للواقع مجددا، بلاد البنط حقيقية وذات امتداد شاسع للغاية ولكن لا توجد لها آثار ضخمة ولا لغة موروثة ولا عاصمة معروفة ولا أي شيء. لماذا؟

الإجابة في مملكة أخرى برزت في السودان وهي مملكة الفونج، والتي تطورت لاحقا في القرن السادس عشر الميلادي إلى السلطنة الزرقاء أو الدولة السنارية.

هذه الدولة التي حكمت السودان ثلاثة قرون لم يكن لديها جيش موحد ولا عاصمة واحدة ولا نظام ضريبي واحد، ولا ملك واحد، ولكنها كانت كيانا كونفدراليا مزدهرا ومترابطا، وهذا يدل على أن النمط السياسي في المناطق بين الممالك النوبية والإثيوبية وتحديدا في مناطق البنط كان مشابها للنمط الذي ظهر لاحقا في الدولة السنارية، أرض واسعة ومدن صغيرة دون وحدة سياسية محكمة.

ليس هذا وحسب بل من الممكن الربط التاريخي بين الفونج والبنط، حيث تضاربت النظريات حول أصل الفونج مثلما تضاربت حول البنط إذ يتنازع أصل الفونج بين الجذر الشلكاوي النيلي والغرب الأفريقي والعربي أو أنهم ينحدرون من أمراء علوة النوبيين بدليل أن مملكتهم ذابت من الداخل بشكل أقرب للانقلاب وليس الحرب.

ها هنا تلتقي كل النظريات في كوخ القش، وما هو كوخ القش؟ هو المسكن الذي يشبه تماما “القطية” أو البناء المخروطي الذي وثقته حملة حتشبسوت ويتواجد حاليا في السودان، وترتفع “القطية” على جذوع من الخشب في فترة الفيضان أو لتفادي الآفات، وهذا يناسب بيئة المنخفضات التي ذكرناها.

يجدر ذكره أن المادة الأساسية الكوشية للممالك في هذه المنطقة وهم النوبة والعنج ويعتقد البعض أنهم الأجن في جبال النوبة للتطابق اللغوي بينهم والنوبة في دنقلا وفي الكنوز في مصر، للدرجة التي يمكن أن يفهم فيها المواطن المصري من قرية الشلال معظم ما يقوله المواطن السوداني من الجبال الستة جنوب كردفان، وبينهم مسافة تعادل طول مصر مرتين.

تحالف الجمال والذكاء

20190318165616389 مكي المغربي يكتب : صحفي من زمان حتشبسوت

وها أنا ذا أكتب مجددا بذات المخيلة المسافرة عبر القرون التي كتبت بها عن خطاب الرئيس السيسي أمام البرلمان الإثيوبي في عهد رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريم ديسالين ، كنت حينها صحافيا مقيما في أديس أبابا وأكتب لعدد من الإصدارات الأفريقية والعالمية، وكنت في شرفة الصحافيين تحت قبة البرلمان الإثيوبي، ولكنني شعرت وقتها بأنني أتأرجح بين ثلاثة أزمان وبلدان، مصر وإثيوبيا والسودان، وكنت أرى في السيسي فرعونا زائرا وفي برلمان إثيوبيا نبلاء مملكة أكسوم أو رعمت التي سبقتها وعاصرت الفراعنة.

لولا التوثيق الذي قامت به حتشبسوت لما عرفنا قصتها ، فعلا، في الحضارات القديمة، كانت الكلمة هي الصورة، وكان في عهد حتشبسوت الوزير يوزرمين الذي يراجع النصوص ويجيز المنشورات وجاء بعده في عهد تحتمس الثالث الوزير خميراع صاحب البرديات التي تعتبر أول غازيتة ورقية أو جورنال رسمي.

دارت الأيام ونشهد حاليا في إفريقيا ازدهار فكرة أن تنتظم كل الدول في منطقة تجارية واحدة، وذلك ليس بعيدا من تفكير حتشبسوت التي لا تزال تظهر للعالم في كامل زينتها وأناقتها في معبد الدير البحري، وتتزين بها ورقة العشرة جنيهات المصرية الجديدة وتتخذ من اسمها أعمال تجارية كبرى مثل شركة حتشبسوت للتجارة الدولية بالجيزة، القاهرة، وحتشبسوت للصادر بالمعادي.

تاريخ حتشبسوت جعلني أرى في أي سيدة أربعينية مصرية تتقلد موقعا هاما في إدارة الدولة أو العمل العام مشروعا متكاملا لحتشبسوت الجديدة، لتساهم يوما ما في نقل المنطقة من لغة الحرب إلى التجارة والازدهار والنماء.

إقرأ المزيد

أفريقيا: منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية مفتاح لتحويل العائد الديمجرافي

 

*  مكي المغربي كاتب سوداني متخصص في الشؤون الأفريقية 

[email protected] ، +249912139350 +201070220267

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »