أخبار عاجلةالرأي

آسيا العتروس تكتب : كنت في غزة 

 نعيش منذ السابع من أكتوبر الماضي على نبض زحمة الأحداث في غزة … تلازمنا في كل ساعة و كل حين ..نهتز لمعاناة أهلها و صرخات أطفالها و استغاثة نسائها وثكلاها و أيتامها و وجع صحافييها و فنانيها و مؤرخيها ولوعة أطبائها وهم يشهدون موت المصابين البطيئ في قهر وعجز .

نعيش على وقع غزة و كأننا هناك نتألم نسمع نرصد نبكي أحيانا لما يحدث و نشعر بالاحباط و اليأس و لكن لا نفقد الأمل لأن هناك شعب يكابد ينتصر كل يوم للحياة و يتفوق على رائحة الموت المنتشرة في المكان ، عيوننا ترحل إلى غزة كل يوم كما سبق و رحلت إلى القدس مع أنغام فيروز.

في غزة انتهت الرحلة عبر سنة 2023 ، و من غزة تبدأ الرحلة مع أولى ساعات سنة 2024 التي نستقلبها على وقع ضجيج القنابل و الصواريخ و صور المقابر الجماعية و الأشلاء الآدمية ، لا أحد يعرف حصيلة الشهداء في حرب الإبادة الجماعية في غزة حتى اليوم السابع و الثمانين من حرب الإبادة المفتوحة اقتربت الحصيلة من الإثنين و العشرين ألف شهيد و نحو ستين ألف مصاب دون اعتبار المفقودين الذين جمعتهم المقابر الجماعية ، و الجثث التي تم تشويهها و سرقة أعضائها .

ما تقدمه نشرات الأخبار يوميا من جرائم الحرب التي يقترفها جيش الإحتلال ليست سوى الظاهر أما ما خفي فقد لا يكتشف حجمه قبل وقت طويل .

غزة تنزف و كل قطرة من دماء أبنائها تشهد على بؤس و أنانية و انهيار القيم الإنسانية التي سقطت أمام اختبار آلة القتل الإسرائيلية و خذلت غزة و أهلها و تنكرت لحقهم في الحياة و الكرامة و انسانية الانسان.

كم كنا نتمنى لو أن غزة و أهلها المطاردين على أرضهم بإمكانهم إستقبال العام الجديد مثل بقية شعوب الأرض الذين يحتفلون بهذا الموعد و يستعدون له بكل مظاهر الفرح بلقاء الأهل و الأصدقاء و اطلاق الشماريخ و تبادل الهدايا و كل ما يسعد الأطفال و يمنح الجميع فرصة التطلع للتفكير بالمستقبل وتحقيق أحلامهم في الحياة .

لم يعد للحلم مكان في غزة أو في الضفة فجرائم الإحتلال التي تربط الليل بالنهار تصر على تدمير كل مظاهر الحياة والسطو على ما بقي من الهوية الفلسطينية و من أسباب التمسك و البقاء على أرض فلسطين  ، هكذا هي سياسات كيان الإحتلال منذ نشأتها قسرا من رحم عصبة الأمم و الأمم المتحدة لاحقا التي سيتمرد عليها ويدوس على قراراتها بمباركة لحليف الامريكي و البريطاني و تواطؤ بقية أعضاء نادي مجلس الأمن الدلي .

فقد قام الاحتلال منذ بداياته على الدم بدءا من مجزرة دير ياسين و الطنطورة و اللد و الرملة و صفد وصولا إلى القدس وصبرا و شاتيلا و الخليل و غزة 1 وصولا إلى خامس حرب على القطاع مع اختلاف واحد و هو أن عصابات الهاغاناه و الشترن تحولت الى جيش نظامي إرهابي .

لا حديث اليوم الا عن غزة وهذا ما يجب أن يكون حتى يتوقف العدوان لا الإعلام يجب أن يمل ولا الشعوب الحية و الحقوقيين الرافضين للظلم يجب أن يطبعوا و يستسلموا لما يحدث و يقبلوا بحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع المدمر فيما يتواصل صمت العالم و عجزه عن إيقاف الحرب و إيقاف شلال الدم المستمر .

أن ينحصر عنوان عام 2023 الذي ودعناه و عام 2024 الذي نستقبله حول ما يحدث في غزة مسألة فرضتها الأحداث و الايد أن ما ستؤول إليه هذه الحرب سيكون ربما منطلقا لقراءة توجهات و مستقبل المنطقة العربية و هل ستغرق أكثر و أكثر في دماء شعوبها و تستمر في الإنهيار و السقوط و التفكك أم إننا سنشهد صحوة مفاجئة تضع حدا لحالة التدمير الممنهج التي تعيش على وقعه المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج .

لم تكن سنة 2023 بدون مآسي قبل إندلاع الحرب على غزة فقد كان لزلزال سوريا و تركيا آثاره الثقيلة المؤلمة ولكن ما شهده العالم من تضامن إنسانية على وقع المآسي الإنسانية أوحى ببقية من قيم إنسانية كونية تكابد من أجل البقاء .

و كان لتزامن زلزال المغرب و طوفان درنة ما حول الأنظار عن المآسي الإنسانية العالقة في اليمن و معاناته مع الصراعات و الحروب و المجاعة و مع مآسي السودان الغارق في أزماته و صراعاته و حروب الإخوة الاعداء الذين اجتمعوا لإسقاط دكتاتورية نظام البشير فسقطوا في خلافاتهم و حروبهم التي تهدد السودان اليوم بأخطر التداعيات الأمنية و الاجتماعية.

و لو انتقلنا في جولة افتراضية لوجدنا المنطقة العربية تنوء بأثقالها و أزماتها .. بين أزمات اقتصادية و اجتماعية و فقر مادي و آخر معرفي و علمي و أمية ضاربة و تطرف بلا حدود .

يلقي البعض بالتلميح حينا و التصريح حينا آخر على حماس بالمسؤولية فيما آلت اليه الأوضاع في غزة من خراب و دمار و موت في كل مكان ، و لكن ينسى الكثيرون أن غزة قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر لم تكن تحظى برغد العيش و لم يكن أهل غزة يعيشون في كنف الحرية و الأمان.

كانت غزة محاصرة برا و بحرا و جوا و كان الجميع داخل سجن لا مجال لمغادرته و كان نصف شباب غزة مبتور الأطراف بفعل الإعتداءات الإسرائيلية على المتظاهرين على الحدود كل أسبوع .

كانت غزة تعيش معاناة مضاعفة بمعزل عن كل العالم ، عملت إسرائيل بعد أوسلو على تمكين حماس في غزة على أمل تشتيت فتح و إضعافها و دفع الحركات الفلسطينية إلى السقوط في محاربة بعضها البعض ،و هو ما يمكن القول إنها نجحت فيه .

جاءت عملية طوفان الأقصى لتوجه صفعة لم يتوقعها الإحتلال و قناعتنا أن كل التقارير التي تتحدث اليوم عن معرفة مسبقة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالعملية و الإدعاء بأن إسرائيل لم تمنع وقوعها حتى تعيد إحتلال القطاع محاولات لإنقاذ حكومة نتنياهو و جيش الإحتلال من العار الذي سيلاحقه إلى ما لا نهاية.

و الأكيد أن الحقد الأعمى و كل العمليات الانتقامية التي تقودها إسرائيل في هذه الحرب هي أشبه بما يقوم به حيوان جريح في لحظات الهيجان ، و بقطع النظر عن ردود الأفعال الإسرائيلية و الأمريكية و نتائجها على الأرض فإن إسرائيل و حلفاءها لم يستسيغوا هزيمة الجيش الذي طالما وصف بأنه لا يقهر و الهزيمة مشتركة لأنها تمتد أيضا للحلفاء الذين يمولون و يجهزون جيش الإحتلال بكل أنواع السلاح الحديث .

اليوم يدفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دماء أطفاله و نسائه و شبابه و موروثه و كل مكونات غزة بآثارها و مساجدها و كنائسها .

بعض المؤشرات بدأت عن مفاوضات في القاهرة و مبادرة مصرية لإنهاء الحرب و تبادل الرهائن و الأسرى ، من السابق لأوانه قراءة المشهد في ظل سموم القنابل المتهاطلة على أهالي غزة و الممتد إلى الضفة في حرب الإبادة المنسية على الفلسطينيين في جنين و الخليل و القدس.

هل يعني ذلك نهاية الآمال و انعدام الافاق و المبادرات ، بالتأكيد لا و الأمر يبقى بيد الفلسطينيين وحدهم و سيتعين على كل الفصائل الفلسطينية المقاومة و كل السياسيين عدم التفريط في هذه المحطة التاريخية في تاريخ القضية الفلسطينية و عدم إهدار دماء الشهداء و الضحايا لأن الاجيال القادمة لا و لن تغفر لهم ذلك .

غزة اليوم عنوان لصمود أسطوري و لكن لمعاناة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث ، كان البلدوزر شارون يحلم أن يستيقظ و يجد أن غزة قد ابتلعها البحر ، في سجل شارون مجازر و جرائم ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين ، رحل شارون وقبر و بقيت غزة و هي اليوم تتحدى جلاديها وتواجه لا جيش الإحتلال الإسرائيلي فقط و لكنها تواجه معه كل القوى العنصرية الداعمة لصلف وغطرسة الإحتلال .

ما الذي سيحمله 2024 لغزة و للعالم ؟ قد يكون من الصعب التكهن بما سيؤول إليه المشهد في غزة و الضفة ولكن الأكيد أن القضية انتفضت و خرجت من غياهب النسيان ولا يمكن ان تكون محل مقايضة و سمسرة مجددا .

سنعود إلى غزة و لن يكون ذلك عبر رحلة افتراضية و عبر رصد بين معاناة أهل القطاع و لكن عبر بحر غزة رئة القطاع و متنفسه و قاطرته إلى كل العالم .

سنعود إلى غزة و نشهد عودة مهد العزة الى أصحابها ، سنعود إلى غزة التي ترسم للعالم أروع الملاحم النضالية في زمن عزت فيه معاني النضال و باتت خاضعة للمقايضة في المنابر الأممية و مجلس أمنها الذي يبارك ذبح الأبرياء إرضاء لمكابرة و ظلم و همجية كيان الإحتلال .

سنعود إلى غزة لنسمع حكايات أمواج البحر المتدافعة هناك تتحدث عن بحرها مصدر ثرواتها و تجارتها و حضاراتها المتعاقبة التي صنعت تاريخ غزة و ماضيها و لكن أيضا مستقبلها و مستقبل الأجيال القادمة …سنعود الى غزة و إلى فلسطين بالتاكيد .

 

* آسيا العتروس .. كاتبة صحفية تونسية .

إقرأ المزيد : 

آسيا العتروس تكتب .. رسالة مفتوحة إلى زملائنا الأمناء على الحقيقة في غزة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »